و{ صراط الذين أنعمت عليهم } بدل الكل من { الصراط المستقيم } وفائدته التوكيد كقولك : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان ؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك بينت ذكره مجملاً أوّلاً ومفصلاً ثانياً . وقراءة ابن مسعود { صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب } بدل من " الذين " أو صفة . وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلاً تعريف كقوله : " ولقد أمر على اللئيم يسبني " . أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك : عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلاً وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة . والفرق بين عليهم الأولى والثانية ، أن الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل .
وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال : دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه . وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية . والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش { ونعمة كانوا فيها فاكهين } [ الدخان : 27 ] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق . وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه ، وضل الكافر غاب عن الحق . قال تعالى : { أئذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] و " غير " ههنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر . تقول : أنا زيداً غير ضارب كما تقول : أنا زيداً لا ضارب . ويعضده ما قرئ وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد { ولا جأنّ } .
في فوائد قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } :
الأولى : حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر . ثم نقول : كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة ، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه . والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار . وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم }
[ البقرة : 28 ] ثم عقب ذلك بقوله { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] .
الثانية : هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا ؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها : قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى . والجواب أن قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدفع ذلك ، ومنها قوله { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة ، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها ، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك . على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار } [ البقرة : 126 ] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن ، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء } [ البقرة : 21 ، 22 ] وقال : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم . وقال : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة .
الثالثة : ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله " { أنعمت عليهم } ؟ قلنا : يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية . ثم إنه يخرج بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع ، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات . وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده
{ إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] { وما أنت بمسمع من في القبور } [ فاطر : 22 ] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه . وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب . والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار ، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام ، فما الإنعام إلا بالإتمام . قيل : لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً . قلت : النزاع لفظي لأن الأصلح لابد أن يصدر عنه ، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه .
الثاني عشر في فوائد قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
الأولى : من المغضوب عليهم ومن الضالون ؟ قلت : المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود ، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى . وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد ، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك . وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال ، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } [ الأنعام : 71 ] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم
{ يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] ولهذا قال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] والنصارى أفرطوا وقالوا { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى } وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود { وباءوا بغضب من الله }
[ آل عمران : 112 ] وفي النصارى { وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] هذا شأن الفريقين . وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ]{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وخير الأمور أوسطها .
الثانية : الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه .
الثالثة : ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل ؟ قلت : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى الله عليه وسلم : { لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا } فقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } يدل على الرجاء ، وباقي الآية يدل على الخوف ، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه .
في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج :
المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ونسبة الأصل إلى الفرع ، والنور إلى الظلمة ، فكل شاهد . فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل ، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } [ التكوير : 20 ، 21 ] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات ، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر . ولابد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة . وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة ، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية { وقالوا سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه { غفرانك ربنا }
[ البقرة : 285 ] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب
{ وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] فضد النسيان هو الذكر { واذكر ربك إذا نسيت } [ الكهف : 24 ] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله { بسم الله الرحمان الرحيم } . وثانيها { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } [ البقرة : 286 ] ودفع الإصر والثقل يوجب { الحمد لله رب العالمين } . وثالثها :
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [ البقرة : 286 ] . ذلك إشارة إلى كمال رحمته { الرحمان الرحيم } ورابعها { واعف عنا } [ البقرة : 286 ] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين { مالك يوم الدين } . وخامسها { واغفر لنا } [ البقرة : 286 ] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك { إياك نعبد وإياك نستعين } . وسادسها { وارحمنا } [ البقرة : 286 ] لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم } . وسابعها { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة معراج المؤمن " .
المنهج الثاني : المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى . الشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية أرضية ، ولهذا قال : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه . قال تعالى : { وينهي عن الفحشاء } [ النحل : 9 ] أي الشهوة ، والمنكر الغضب ، والبغي الهوى ، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه ، وبالغضب ظالماً لغيره ، وبالهوى لربه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه " ونتيجة الشهوة الحرص والبخل ، ونتيجة الغضب العجب والكبر ، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة . ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة ، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } [ الفلق : 5 ] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله { يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } [ الناس : 5 ، 6 ] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون : من هذا ؟ قال : إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت . فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك ؟ قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت فيما وقعت . ثم نقول : الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة ، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك . ومن عرف أنه رحمان لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمان { الملك يومئذ الحق للرحمان } [ الفرقان : 26 ] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية . وأما الفاتحة فإذا قال { الحمد لله } فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، ومن عرف أنه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف إنه { الرحمان الرحيم } زال غضبه ، ومن قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال { صراط الذين أنعمت عليهم } زال عنه كفره ، وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته ، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة . وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها ، كأنه قال : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس ، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس ، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس .
المنهج الثالث : في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد { الحمد لله } إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم . { رب العالمين } يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً { قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] { ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق } [ العلق : 1 ، 2 ] وهذه الحالة كما أنها في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم ، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان . فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمان الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت . { مالك يوم الدين } يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم ، وههنا تمت معرفة الربوبية . ثم إن قوله { إياك نعبد } إشارة إلى الأمور التي لابد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان : الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان : أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله { إياك نعبد } والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله { وإياك نستعين } .
وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره وفي قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] وفي قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب .
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي
والجمر يوضع في الرماد فيخمد *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المنهج الرابع : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد { بسم الله الرحمان الرحيم } يقول الله : ذكرني عبدي . وإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } يقول الله : حمدني عبدي وإذا قال : { الرحمان الرحيم } يقول الله : عظمني عبدي . وإذا قال : { مالك يوم الدين } يقول الله : مجدني عبدي -وفي رواية فوض إلي عبدي- وإذا قال : { إياك نعبد } يقول الله : عبدني عبدي وإذا قال : { وإياك نستعين } يقول الله : توكّل عليّ عبدي -وفي رواية وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } يقول الله : هذا لعبدي ما سأل " فقوله " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله " إذا قال العبد : { بسم الله الرحمان الرحيم } يقول الله ذكرني عبدي " مناسب لقوله تعالى { فاذكروني أذكركم } " أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] { واذكر ربك في نفسك } [ الأعراف : 205 ] { تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } [ آل عمران : 191 ] ولهذا وقع الابتداء به . وقوله " ذكرني عبدي " دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله { بسم الله الرحمان الرحيم } وهذا يدل على أن الله اسم علم . وقوله " إذا قال : { الله رب العالمين } يقول الله : حمدني عبدي " يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وآخر كلام في الجنة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر ، فقوله " حمدني عبدي " شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين ، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه . قوله " وإذا قال : { الرحمان الرحيم } يقول الله : عظمني عبدي " يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد ، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده . ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله . وقوله " وإذا قال : { مالك يوم الدين } يقول الله : مجدني عبدي " أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف .
أيحسب الظالم في ظلمه *** أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوه بل لهم موعد *** لن يجدوا من دونه موئلا
وقوله " وإذا قال العبد { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله هذا بيني وبين عبدي " معناه أن { إياك نعبد } يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض ، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله " وإياك نستعين " وقوله " وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها ، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر . فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] وقال إبراهيم عليه السلام { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } [ الأنعام : 77 ] وقال موسى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } [ طه : 25 ، 26 ] .
المنهج الخامس : آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة : القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة . فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح ، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله { بسم الله الرحمان الرحيم } بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً . وأيضاً التسمية لبداية الأمور " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر " والقيام أيضاً أول الأعمال . وقوله { الحمد لله رب العالمين } بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة ، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق ، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود ، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله { الرحمان الرحيم } مناسب للانتصاب ، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قال العبد : سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة " وقوله { مالك يوم الدين } مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع . وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و{ إياك نستعين } استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية ، وقوله { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع . وقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } إلخ . مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ { التحيات لله } كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن .
المنهج السادس : آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم ، ومراتب خلق الإنسان سبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12-14 ] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة ، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور ، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " .
المنهج السابع : إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت . هذا في عالم الحس ، وأما في عالم الأرواح ، فمن الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين . وقوله " أو أدنى " إشارة إلى فنائه في نفسه . والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات ، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية ، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش ، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }
[ الأنبياء : 19 ، 20 ] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه ، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار . فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى . وأيضاً عنده ملك وشيطان ، ودين ودنيا ، وعقل وهوى ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة ، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل " الله أكبر " أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه ، ثم ليقل " سبحانك اللهم وبحمدك " وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال ، ثم ليقل " تبارك اسمك " إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء ، فيتجلى له نور الأزل والأبد ، ثم ليقل " وتعالى جدك " إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم ليقل " ولا إله غيرك " إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره ، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب ، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " فقولك " سبحانك اللهم وبحمدك " معراج الملائكة المقربين حيث قالوا { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وهو أيضاً معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله " سبحانك اللهم وبحمدك " وقوله " وجهت وجهي " معراج الخليل صلى الله عليه وسلم ، وقولك " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي " معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم . فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لتدفع العجب عن نفسك ، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، وبقولك { بسم الله الرحمان الرحيم } يفتح باب الذكر ، وبقولك { الحمد لله رب العالمين } يفتح باب الشكر ، وبقولك { الرحمان الرحيم } يفتح باب الرجاء ، وبقولك { مالك يوم الدين } يفتح باب الخوف ، وبقولك { إياك نعبد وإياك نستعين } يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك { اهدنا الصراط المستقيم } يفتح باب الدعاء والتضرع { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وبقولك : { صراط الذين أنعمت عليهم } الخ . يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم ، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة ، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف
{ إذا قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] بل قيام أهل القيامة { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم " وجهت وجهي " ثم " الفاتحة " وبعدها " ما تيسر لك من القرآن " واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها ، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك " فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : " سبحان ربي الأعلى " فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة . . ركوع واحد وسجدتان ، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات . فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات ، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسماوات ، فقل عند ذلك " التحيات المباركات " باللسان ، و " الصلوات " بالأركان و " الطيبات " بالجنان وقوة الإيمان بالله ، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فكأنه قيل لك : بم نلت هذه الكرامات ؟ فقل : بقولي : " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله " فقيل : إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل " اللهم صل على محمد وآل محمد " ، فقيل لك : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال
{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين " فيقال لك : هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله ؟ فقل : بل من الحميد المجيد " إنك حميد مجيد " . ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة " إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه " فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى : إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاءوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين ، فقل عن اليمين وعن الشمال " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار .
المنهج الثامن : أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان ، فالمكان فضاء لا نهاية له ، وخلاء لا غاية له ، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد ، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل . فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة { الرحمان الرحيم } فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان ، فعقد المكان بالكرسي { وسع كرسيه السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ] وعقد الزمان بالعرش { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فالعلو صفة الكرسي { وسع كرسيه } [ البقرة : 255 ] والعظمة صفة العرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وكمال العلو والعظمة لله { ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " وفي التنزيل { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمان : 27 ] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب { توبوا إلى الله توبة نصوحاً } [ التحريم : 8 ] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائماً { فأقم وجهك للدين حنيفاً } [ الروم : 30 ] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل " الله أكبر " أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت " الله أكبر " فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم قل " وجهت وجهي " ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت { بسم الله الرحمان الرحيم } أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السماوات والأرضون ، وإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وإذا قلت { الرحمان الرحيم } أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت { مالك يوم الدين } أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت { إياك نعبد } أبصرت به عالم الشريعة ، وإذا قلت { وإياك نستعين } أبصرت به عالم الطريقة ، وإذا قلت { اهدنا الصراط المستقيم } أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت { صراط الذين أنعمت عليهم } أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات ، وإذا قلت { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل " الله أكبر " ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل " سبحان ربي العظيم " ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل " سمع الله لمن حمده " فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم . ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة ، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل " سبحان ربي الأعلى " لأن السجود أكثر تواضعاً . روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل . فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة ، ثم ثلاثين ألف سنة ، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش . فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى . أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد ، والقعدة بينهما هي الدنيا ، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له ، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً . وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى ، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها ، والثانية بقاؤها ببقائه ، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته ، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه . وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد ، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة ، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية ، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات . ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة ، وفي السجود بمرتبتين ، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا .
المنهج التاسع في اللطائف : عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال : ما جزاء من حمدك ؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته . فقال أهل التحقيق : من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون ، ثم قال له : تكلم فقال : الحمد لله فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك . ونقل عن آدم عليه السلام لما عطس قال : الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد ، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد ، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه . وأيضاً أول كلام الله " الحمد لله " وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة ، فجعل { الحمد لله } أول آية من كتاب محمد رسول الله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان : محمد وأحمد . وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد " فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] ورسول الله محمدهم .
أخرى : الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال " سبقت رحمتي غضبي " .
أخرى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين .
أخرى : إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات ، وكلها تدل على الرحمة ، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ] فقوله " نبئ " إشارة إلى محمد وهو مذكور قل العباد ، والياء في قوله " عبادي " ضمير الله سبحانه . وكذا في " أني " و " أنا " و " الغفور " و " الرحيم " صفتان لله ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ورحمة الله تعالى غير متناهية
{ ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة ؟ ! .
أخرى : في الفاتحة عشرة أشياء ، خمسة من صفات الربوبية : الله الرب الرحمان الرحيم المالك ، وخمسة من صفات العبودية : العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله { أنعمت عليهم } وكأنه قيل { إياك نعبد } لأنك أنت الله { وإياك نستعين } يا رب اهدنا يا رحمان ، وارزقنا الاستقامة يا رحيم ، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك .
أخرى : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي . فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان { رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [ المؤمنون : 97 ] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمان وهو مركب من القهر واللطف { الملك يومئذ الحق للرحمان } [ الفرقان : 26 ] فترك الخصومة والعدوان . وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] فترك العصيان ، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فدان . فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء ، فلطاعة الأبدان قال : { إياك نعبد } ولطاعة النفس البهيمية قال : { وإياك نستعين } على ترك اللذات وارتكاب المنكرات ، ولطاعة النفس السبعية قال : " اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا " ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال : { اهدنا الصراط المستقيم } ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال : { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
أخرى : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية ، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمان لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء ، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم ( يحكى ) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجياع . وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات ، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها . ووجوب الحج من تجلي اسم { مالك يوم الدين } لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة . وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة .
أخرى : الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] وأدب السمع { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] وأدب الذوق { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] وأدب الشم { وإني لأجد ريح يوسف } [ يوسف : 94 ] وأدب المس { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة : الله الرب الرحمان الرحيم المالك ، على تأديب هذه الحواس الخمس .
أخرى : الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار ، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته ، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير ، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فهذه أربعة ، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت نور الرحمان طلبت منه خيرات الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور { مالك يوم الدين } طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها .
أخرى : للتجلي ثلاث مراتب : تجلي الذات { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }
[ الأنعام : 91 ] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله ، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب { الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً }
[ آل عمران : 191 ] ويدل عليه اسم الرحمان . وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد { الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي } [ طه : 53-54 ] ويدل على لفظ الرحيم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } [ غافر : 7 ] .
أخرى : في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله { بسم الله } و{ الحمد لله } بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور ، { بسم الله } ذكر و{ الحمد لله } شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمان الدنيا ، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة . كلمتان أضيف إليهما اسمان لله { رب العالمين } { مالك يوم الدين } فالربوبية لبداية حالهم { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] والملك لنهاية حالهم { لمن الملك لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم " الراحمون يرحمهم الرحمان ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " .
المنهج العاشر : للخلق خمس أحوال : أولها : الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله . وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب . وثالثها : التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمان . ورابعها : في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي . وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم { مالك يوم الدين } ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال : { إياك نعبد } لأنك أنت الله الخالق { وإياك نستعين } لأنك أنت الرب الرازق { إياك نعبد } لأنك الرحمان { وإياك نستعين } لأنك الرحيم { إياك نعبد } لأنك الملك { وإياك نستعين } لأنك المالك ، { إياك نعبد } لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولابد من زاد وخير الزاد العبادة ، { وإياك نستعين } لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل . ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة ، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق { اهدنا الصراط المستقيم } . ثم إنه لابد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل { صراط الذين أنعمت عليهم } فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء ، { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لأن الحجب قسمان : نارية وهي الدنيا بما فيها ، ونورية وهي ما سواها . اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين .
وآمين مداً وقصراً معناه استجب ، كما أن رويد معناه أمهل . وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه إفعل .