غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

17

ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلاً آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف ، وإيضاحاً غب إيضاح ، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع . فيكون تقدير الكلام " مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب " على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعاً نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين . والتمثيلان جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب . ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال ، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ، ولذلك أخرج تدرجاً من الأهون إلى الأغلظ ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا : أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به . ألا ترى إلى قوله تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } [ يونس : 24 ] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب ، لأن الضمير في { يجعلون } لابد له من راجع هذا هو التحقيق . وقد يقال : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق . وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضرورياً ليصبح تشبيه المنافقين بهم ، ويكون المعنى " مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا " ويكون ذكر المشبهات مطوياً على سنن الاستعارة . والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع . ويقال للسحاب : صيب أيضاً . وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول . والسماء هذه المظلة ، والفائدة في ذكره ، والصيب لا يكون إلا من السماء ، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء . وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على " فيعل " والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقاً ، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها وخالطتها ، حصل من اختلاطها موجودات شتى . فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية . أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكباً يقذف به ، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد . وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع ، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً . ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً ، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب ، فنزل وكان ثلجاً ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل ، فنزل وكان صقيعاً وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهاً بالثلج ، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً . وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب ، وفي الربيع وهو داخل السحاب ، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً فاستحال مطراً . وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة ، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحاباً فبرد فتغلغل فيه الدخان طلباً للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد ، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد ، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد . وإن كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال . فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى . ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : ارتفع { ظلمات } بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف . والصيب إن كان سحاباً فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وإن كان مطراً فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل . ثم إن كان الصيب سحاباً فكونه مكاناً للرعد والبرق ظاهر ، وإن كان مطراً فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك ، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري :

يا عارضاً متلفعاً ببروده *** يختال بين بروقه ورعوده

وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل ، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل : وإرعاد وإبراق . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . وجاز رجوع الضمير في { يجعلون } إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور . قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى يصفق بالرحيق السلسل

ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق . والبريص نهر من أنهارها . ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر . ولا محل لقوله { يجعلون } لكونه مستأنفاً كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد ؟ فقيل : يجعلون أصابعهم .

ثم سئل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فأجيب { يكاد البرق يخطف أبصارهم } وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ . وليس بعض الأصابع -كالمسبحة مثلاً بجعلها في الأذن- أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص ؟ وقوله { من الصواعق } أي من أجل الصواعق نحو : سقاه من العيمة . وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ، ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته . فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية ، أو مصدراً كالعافية والكاذبة . { وحذر الموت } مفعول له كقوله :

وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً

والموت فساد بنية الحيوان . وقيل : عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس . وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، والجملة معترضة لا محل لها .