غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

228

الحكم الخامس من أحكام الطلاق : بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان ، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره . والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال : فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم . هذا عند من يفسر قوله { الطلاق مرتان } بالطلاق الرجعي . وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق . فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله { الطلاق مرتان } واستوفى نصابه { فلا تحل له من بعد } ذلك { حتى تنكح زوجاً غيره } . ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح ههنا بمعنى الوطء ، لأن قوله { زوجاً } يدل على العقد . وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] ويؤيد هذا " ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمان بن الزبير تزوجني . وإن ما معه مثل هدبة الثوب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل . ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت : إنه قد كان مسني فقال لها : كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : أرجع إلى زوجي الأول فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه . فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال : إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها . وأيضاً المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم : إنما حرم الله على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن زوجاً غيره لما فيه من الغضاضة . ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول ، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعاً وزاجراً . ثم قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات ، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين ، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثاً على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل . ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان : أحدهما لا يصح ، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة . ولو تزوجها مطلقاً مضمراً أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به . وقال مالك وأحمد والثوري : هذا النكاح باطل . وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له " وعن عمر : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . { فإن طلقها } أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة { فلا جناح عليهما } على المرأة المطلقة والزوج الأول في { أن يتراجعا } بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله { فلا جناح عليهما } ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح ههنا بمعنى العقد ، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة . والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن } { إن ظنا أن يقيما حدود الله } إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ، ولم يقل إن علما ، ولا يجوز أن يفسر الظن ههنا بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان ، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعاً . من قرأ { نبينها } بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم ، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها ههنا الحال فلا إشكال . وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال ، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة . فكان المراد - والله أعلم - إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله ، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس } [ النحل : 44 ] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك .

/خ232