غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ} (17)

11

أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها { من بين أيديهم } أي أشككهم في صحة البعث والقيامة { ومن خلفهم } ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية . وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها ؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها ، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها ، وثالثها قول الحكم والسدي { من بين أيديهم } يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها { ومن خلفهم } الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك . وأما قوله : { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فقيل : { عن أيمانهم } في الكفر والبدعة { وعن شمائلهم } في أنواع المعاصي . وقيل : { عن أيمانهم } في الصرف عن الحق { وعن شمائلهم } في الترغيب في الباطل . وقيل : { عن أيمانهم } افترهم عن الحسنات { وعن شمائلهم } أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري : وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين . وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس . وقال حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية : إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : { من بين أيديهم } وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله : { ومن خلفهم } وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن . ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر . فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة . وقيل : { من بين أيديهم } الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد { ومن خلفهم } شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى ، { وعن إيمانهم } الترغيب في ترك المأمورات { وعن شمائلهم } الترغيب في فعل المنهيات . وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه : 82 ] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ

{ وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [ سبأ : 54 ] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام . فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل » وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال : { من بين أيديهم ومن خلفهم } بحرف الابتداء { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } بحرف المجاورة ؟ قال في الكشاف : وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع . يقال : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، فمعنى «على » أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى «عن » أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به «رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس » لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدئ الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل . وقال بعض المفسرين : خص اليمين والشمال بكلمة «عن » لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف . وقالت الحكماء { من بين أيديهم ومن خلفهم } هما الوهم والخيال كما مر والناشئ منهما العقائد الباطلة والكفر { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } الشهوة والغضب والناشئ منهما الأفعال الشهوية والغضبية . وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة «عن » تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول . وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن ، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات ؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة . قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق . قلت : هذا منافٍ لما في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . أما قوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف ؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين . وقال آخرون : إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله ، ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال :

{ ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] . وقيل : إن للنفس تسع عشرة قوة : الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم . وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لاسيما وهي في أول الخلقة تكون قوية ، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } .

/خ25