محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (108)

[ 108 ] { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين 108 } .

{ قل هذه سبيلي } أي هذه السبيل ، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، سبيلي ، أي طريقي ومسلكي وسنتي . والسبيل والطريق يذكّران ويؤنّثان . ثم فسر سبيله بقوله : { أدعوا إلى الله } أي : إلى دينه وتوحيده ، ومعرفته بصفات كماله ، ونعوت جلاله { على بصيرة } أي : مع حجة واضحة ، غير عمياء . { أنا ومن اتبعني } أي : آمن بي ، يدعون إلى الله أيضا على بصيرة ، لا على هوى . { وسبحان الله } أي : وأنزهه / وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك أو ند أو كفؤ أو ولد أو صاحبة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، { وما أنا من المشركين } أي : على دينهم .

تنبيهات :

الأول - قال السمين { أدعوا إلى الله } يجوز أن يكون مستأنفا ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالا من الياء . و { على بصيرة } حال من فاعل { أدعوا } أي : أدعو كائنا على بصيرة . وقوله : { ومن اتبعني } عطف على فاعل { أدعو } ، ولذلك أكد بالضمير المنفصل ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف . أي : ومن اتبعني يدعو أيضا . ويجوز أن يكون { على بصيرة } خبرا مقدما ، و { أنا } مبتدأ مؤخرا ، و { من اتبعني } عطف عليه ومفعول { أدعوا } إما منوي ، أي الناس ، أو منسي .

الثاني - دل قوله تعالى { على بصيرة } على مزية هذا الدين الحنيف ، ونهجه الذي انفرد به ، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته ، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين ، وكر عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان ، وما فيها من الإحكام والإتقان ، على أنظار العقول ، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه - انظر ( رسالة التوحيد ) في تتمة ذلك .

الثالث - دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم ، الدعوة إلى الله .

قال الرازي : كل من ذكر الحجة ، وأجاب عن الشبهة ، فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله . وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط : وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ، وعلى هدى ويقين ، فإن لم يكن كذلك ، فهو محض الغرور . انتهى .

ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين ، وإذاعة آدابه وتعليمه .

قال بعضهم : ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة ، في حال مخالطته ومجالسته لهم ، في بيان الواجبات والمحرمات ، ونوافل الطاعات ، وذكر الثواب والعقاب ، على الإحسان / والإساءة . ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها . ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم ، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه ، ومضطرون إليه ، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال . والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين ، علما وعملا ، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم ، فيعم الهلاك ، ويعظم البلاء . وقلما تختبر عامّيا وأكثر الناس عامة إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات ، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها ، وإن لم يوجد جاهلا بالكل ، وجد جاهلا بالبعض . وإن علم شيئا من ذلك ، وجدت علمه به علما مسموعا من ألسنة الناس ، لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مؤونة ، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه . وعلى الجملة ، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم ، ويحدثوهم به ، ويبثوه لهم ، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاءوا من أجله . مثل ما إذا جاءوا لعقد النكاح ، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف . أو لعقد بيع ، يكون كلامه صحيح البيوع وآدابها ، وفوائد التجارة النافعة ، واجتناب الغش والخداع وهكذا . ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين ، ولا أن يصرف شيئا من أوقاته في غير إقامة الدين . وبالسكوت عن التذكير والتعليم ، يغلب الفساد ، ويعم الضرر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .