/ [ 111 ] { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 111 } .
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } الضمير ليوسف وإخوته ، أو للأنبياء وأممهم . ورجّح الزمخشري الثاني بقراءة { قصصهم } بكسر القاف ، جمع قصة . والمفتوح مصدر بمعنى المفعول . وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة ، وقد يطلق الجمع على الواحد ، كما مر في { أضغاث أحلام } {[4977]} . وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى .
{ ما كان } أي : القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة { حديثا يفترى } أي : يختلق . { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي : من الكتب المنزلة ، فهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير .
قال بعض المحققين : المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة ، بدليل وجود أمثالها بين الناس ، قبل نزوله . فهي وإن اختلفت قليلا في بعض التفاصيل والجزئيات ، عما يرويه الناس ، إلا أنها توافقها في الجملة ، وتصدقها في الجوهر . فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله ، بل اسألوا عنها أهل الكتاب تجدوا أنها معروفة بينهم ، ومروية في كتبهم ، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل ، من أعظم ما يصدقه ويؤيده ، لأن النبي صلوات الله عليه ، لم يطلع على كتب أهل الكتاب . ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما ! كلا إذ لو صح / هذا لما قال تعالى{[4978]} : { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } فقصصه قد تختلف عما عندهم ، وتبين لهم حقه من باطله . فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة ، ومخالفته لها في بعض الجزئيات كما قلنا ويجوز أن يكون المراد بقوله : { تصديق الذي بين يديه } تصديق الحق الذي عندهم ، لا كلّ الذي عندهم ، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة ، وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها ، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه ويستحيل أن يكون مصدقا لما جاء لإبطاله . فتنبه لذلك ، ولا تكن من الغافلين . انتهى .
وقوله تعالى : { وتفصيل كل شيء } أي : تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام ، والآداب والأخلاق ، ووجوه العبر والعظات . ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغيّ إلى الرشاد ، ومن الضلال إلى السداد ، وتبتغي به الرحمة من رب العباد ، كما قال تعالى : { وهدى } أي : من الضلالة { ورحمة } أي : من العذاب { لقوم يؤمنون } أي : يصدقون به ، ويعملون بأوامره ، فإن الإيمان قول وعقد وعمل . وخصهم لأنهم المنتفعون به .
الأول - فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص .
قال في ( اللباب ) : الاعتبار والعبرة : الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد . والمراد منه التأمل والتفكر . ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه ، وإخراجه من السجن ، وتمليكه مصر بعد العبودية . وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة ، واليأس من الاجتماع ، قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم ، وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب ، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إن قصة يوسف الصديق ، جمة الفائدة ، وجليلة العائدة ، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الاقتداء بها . فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام ، رآها رغيدة ، وألفاها هنيئة ، وما ذلك إلا لطيب سيرته ، وحميد سريرته ، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة ، ولاسيما فضيلة العفة والطهارة ، التي ترفع قدر صاحبها ، وتنزله المنزلة السامية فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة ، كيوسف ، فيتسم ذروة المجد في هذه الدنيا وينال السعادة الدائمة في الآخرة . انتهى .
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة من جملة ما قص على النبي ، صلوات الله عليه ، من أنباء الرسل ، وأخبار من تقدمه ، مما في التثبت المشار إليه في قوله تعالى{[1]} : { وكلا نقص عليك . . . } الآٍية .
وإنما أفردت على حدتها ، ولم تنسق على قصص الرسل ، مع أنهم في سورة واحدة ، لمفارقة مضمونها تلك القصص . ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام ، وكيفية تلقي قومهم لهم ، وإهلاك مكذبيهم ؟ أما هذه القصة ، فحاصلها : فرج بعد شدة ، وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره ، وشتات بنيه . وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن . ثم امتحن جميعهم بشمول الضر ، وقلة ذات اليد{[2]} { مسنا وأهلنا الضر . . . } الآٍية . ثم تداركهم الله بإلفهم ، وجمع شملهم ، ورد بصر أبيهم ، وائتلاف قلوبهم ، ورفع ما نزغ به الشيطان . وخلاص يوسف عليه السلام ، وبكيد من كاده ، واكتنافه بالعصمة ، وبراءته عند الملك والنسوة . وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر ، وجلالة اليقين ، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم ، على توالي الامتحان ، وطول المدة . ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز ، ورجوعها إلى الحق ، وشهادتها ليوسف عليه السلام ، بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين ، ثم استخلاص العزيز إياه . إلى ا انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر . فقد انفردت هذه القصة بنفسها ، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ، وما جرى في أممهم ، فلهذا فصلت عنهم ، وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طيّ ذلك . وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله{[3]} تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض . . . } إلى قوله : { أمنا } وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر ، وهجرهم ، وتشققهم مع قومهم ، وقلة ذات أيديهم ، إلى أن جمع الله شملهم{[4]} : { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } ، وأورثهم الأرض ، وأيدهم ونصرهم . وذلك بجليل إيمانهم ، وعظيم صبرهم ، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص والله أعلم .
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام ، في صبرهما ، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا ، ما أعد لهما من عظيم الثواب ، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش ، ومفارقة وطنه ، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدّوه ، وإعزاز دينه ، وإظهار كلمته ، ورجوعه إلى بلده ، على حالة قرت بها عيون المؤمنين ، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه . فتأمل ذلك ! ويوضحه ختم السورة بقوله : { حتى إذا استيأس الرسل . . . } الآية . فحاصل هذا كله الأمر بالصبر ، وحسن عاقبة أولياء الله فيه كذا في ( تفسير البرهان ) للبقاعيّ ملخصا .
وجاء في كتاب ( النظام والإسلام ) في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله :
طال الأمر على أمتنا ، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة ، وكيف تنتقي الرجال الأكفاء في مهام الأعمال . يا ليت شعري ! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ، وأهملت أمرها ، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا / المؤرخين . القصص في كل أمة ، عليها مدار ارتقائها ، سواء كانت وضعية أم حقيقية ، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد . على هذا تبحث الأمم ، قديمها وحديثها . وناهيك بكتاب ( كليلة ودمنة ) ، وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام ، ككتاب ( فاكهة الخلفاء ) ، و ( مقامات الحريري ) . جاء القرآن بقصص الأنبياء ، وهي لا جرم - أعلى منالا ، وأشرف مزية . كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب ، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه ، والقدوة الحسنة للكمّل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم ، وتحققها في أنفسها ، لوقوع مواردها ، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان ، لاسيما لمن يقتدى بهم . فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص ، ونقصت في سواها . أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن ، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان ، ومرت كأمس الدابر ؟ ! وما لنا ولها إذن ؟ ! تالله إن هذا لهو البوار ! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها ، وأنها عبرة لمن اعتبر ، وتذكرة لمن تفكر ، وتبصرة لمن ازدجر . أما الرجوع إلى التاريخ ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم ، وما سطره الأقدمون على مباينتهم ، وما يقوله القاصون في خرافتهم ، فتلك سبيل حائد عن الجادة ، يضل فيه الماهرون . يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف ، وكيف يقول{[5]} : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب . ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } فانظر كيف أسند العلم لله ، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين ثم لم يبين الحقيقة ، لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل . فإن قال : خمسة قالوا : ستة ، وإن قال : أربعة ، قالوا : سبعة . فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص ، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة . وبالإجمال : فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها ، والعبر المبصرة للسامعين { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } .
/ ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان ، فلا نعتمد إلا على البرهان . تأمل هذا القصص ، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح ، ويعرض عن كثير من الوقائع . إذ لا لزوم لها ، ولا معوّل عليها . فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق ، وحجج عقلية ، وتبصرة وتذكرة ، ومحاورات جميلة تلذ العقلاء . ولاقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام ، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق ، من مدنية المصريين وأحوالهم إلى الخلاصة والثمرة . ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا ، دلالة على أن للطفل استعدادا يظهر على ملامحه ، وأقواله وأفعاله ورؤياه ؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء ، من اليونان والفرس ، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق : كانوا يختبرون أبناءهم ، ويتأملون ملامحهم ، ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم . ثم تأمل في قصة الإخوة ، وحديث القميص والجب والذئب والدم ، لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي ، والخلق المرضي ، والجلال الظاهر على ملامحه . فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه ، دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبيا ، ولا حكيما ، ولا عالما مهما حسنت أخلاقه ، وجمل ظاهره وباطنه . . !
كلّ العداوات قد ترجى إزالتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد
جرت تلك السنة في الأناسي : فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم ، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين ، وعادوا من آذاه ! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز ، وكيف عفّ مع الشباب ، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة ، وأرضى إلهه ، واتسم بالفضيلة ، فتوازى جماله الباطني والظاهري . . ! ولنكتف بهذا القدر الآن ، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح ، التي تضمنتها تلك القصة !
فأما علم الأخلاق ، وتربية رؤساء الأمم منها ، فتأمل في كلام الحكماء أولهم وآخرهم / تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولا فالمنزل فالمدينة ، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها ، إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه . أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله !
بايع الصحابة عليهم رضوان الله الخليفة الأول ، فأخذ قماشا وذراعا وذهب إلى السوق في الغذاة ، فاستاء الصحابة ولاموه فقال : " إذا أضعت أهلي ، فأنا للمسلمين أضيع ! ففرضوا له دريهمات من بيت المال ، فقال : إذن انظر في شؤونكم ! " لذلك ، نجد الغربيين إذا ولوا رجلا إدارة بلادهم أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله ، علما منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة .
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية ، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما ، ذكرت فيها السياسات الثلاثة مرتبة هكذا : النفس فالمنزل فالمدينة ، ترتيبا طبيعيا ، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة . فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق . وليت شعري ! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم ، وعبد الله وحده ، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة . . ؟ ! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب ، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده ، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم . . !
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية ، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة ، فأودع السجن وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب ، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله ، وبث عقيدته بينهم ، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم{[6]} : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه . . . } الآية .
وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه ، وحبه / لمذهبهم ، وبغضه لأصنام المصريين ، ونحوهم ، فقال{[7]} : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله . . . } الآية . ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة ، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها ، فقال{[8]} : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } فتفريق الوجهة شتات الجامعة . لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أيا كانت فيؤمّون مقصدا واحدا ! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب . . !
وفي ( آراء أهل المدينة الفاضلة ) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهم قوم اتحدت بها : كاللغة ، والوطن ، والدين ، والأخلاق ، والجنس ، والحكيم المرشد ، والأب الأكبر . ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة .
ولما تم له ، عليه السلام ، الأمران سياسة النفس والعشيرة أخرج من السجن معظما مبجلا وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش ، وأخذ يريهم كيف يقتصدون الأموال ، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات والبقرات السمان والعجاف ، وأرشدهم إلى حزن البر وسنابله لئلا يفسد ، وغير ذلك من الأمور العامة . وهذه هي المرتبة الثالثة سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين .
والبراعة والكياسة في علوم العمران ، وتدبير أمر الأمة ، إما بوحي وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام ، وإما بتعليم وتدريب وهو اللائق بسائر الناس .
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير ، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر ، فإنه لا بد يوما ما أن يصل إلى الأكابر ، كما في حديث{[9]} هرقل مع أبي سفيان ، وتعليم الصديق من في السجن . فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين .
/ ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه ، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال ، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق ، وتنسى بها أصول الأعراق ، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة ، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص !
وهذه قصة يوسف الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدينة إلى الرذيلة جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة ! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال فساس مصر بعد أن كان مسوسا ، وملك بعد أن كان مملوكا ! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة ، بل في الدارين{[10]} : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } .
هذه هي الأخلاق الفاضلة ، ذكرت في التنزيل نموذجا . في غضون هذه السيرة ، للأمم الإسلامية ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة . وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة ، وبها نفهم ما ذكر في أولها{[11]} : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن } دع قول الجاهلين ، وفهم المتنسكين ، وتجاوز خلط المؤرخين ، واختلافهم ، واصغ إلي ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء ، كما أشرنا سابقا ، ولنزدك بيانا !
قال علماء الأخلاق والحكماء : لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين ، ورجال أعمال قائمين ، فضلاء مرشدين هادين لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة ، فإن كان القائم بالاعمال نبيا فله أربعون خصلة ذكروها . كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته . وإن كان رئيسا فاضلا / لمدينة فاضلة ، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها . وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين . ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال ، إذ قد حاز الملك والنبوة ! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها ، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة ، ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن ، وتنبيها للمتعلمين العاشقين للفضائل على نفائس الكتاب العظيم ، وحبا في نظرهم في القرآن ، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب . !
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة :
1- العفة عن الشهوات ، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين } {[12]} .
2- الحلم عند الغضب : ليضبط نفسه { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } {[13]} .
3- وضع اللين في موضعه ، والشدة في موضعها { ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } {[14]} ، والصدر للين والعجز للشدة .
4- ثقته بنفسه { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } {[15]} .
5- قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون ، ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم { وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } {[16]} .
/ 6- جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح { إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } {[17]} .
7 استعداده للعلم ، وحبه له ، وتمكنه منه { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } {[18]} ، { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين } {[19]} ، { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } {[20]} .
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه . فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال : { يا صاحبي السجن . . . } {[21]} الآية ، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما ، فالأول بقوله : { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } {[22]} ، والثاني بقوله : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله . . . } {[23]} الآية ، وشهدا له بقولهما : { إنا نراك من المحسنين } {[24]} .
9- العفو مع القدرة : { قال لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين } {[25]} .
10- إكرام العشيرة { وائتوني بأهلكم أجمعين } {[26]} .
11- قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك ، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي / والرعية والسوقة ، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة { فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } {[27]} .
12- حسن التدبير { فما حصدتم فذروه في سنبله . . . } {[28]} الآية .
ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك ، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان { وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم . . . } {[29]} الآية ، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه { فبدأ بأوعيتهم . . . . } {[30]} الآية ، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم ، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم ، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم اتباعا لمن رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } {[31]} الآية ، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع ، فعاملهم بما هم عليه ، ولذلك يقول تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم } {[32]} ، امتداح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم وهذه - وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران ، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء !
تالله ! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم ! وليت شعري كيف يقول الله بعدها { نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } {[33]} ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع / وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحيّ والبله الغفل ، ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم ! فحيا الله العلم وأدام دولته . !
ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع ، ثم نظر أمتعتهم جميعا { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه } {[34]} . وهذه : وايم والله هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية ، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم ، وطلبا لحصول المقاصد النافعة ، ودخولا للبيوت من أبوابها ؛ ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد . . . ! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة !
لعمري ! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة ! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة ، وعرف الحكماء وسواس الأمم ، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة ، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } {[35]} ، ويقول في آخرها : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } {[36]} ويقول : { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } {[37]} ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من ورح الله فقال : { حتى إذا استيأس الرسل . . . } {[38]} الآية . ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها ، لا مجرد تفسيرها ، إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء . وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار فقال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى . . . } {[39]} الآية . وهذه ترشدك إن كنت من ذوي الهمة العالية أن / تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمدا طويلا ، ولا تعجل بالرآسة حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنال حظا وافرا من الأخلاق والعلوم . فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه ! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياما وأياما ، ولبس للحوادث أثوابا وأثوابا ، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة !
فتأمل ! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون ، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون ! فإذا سمعوا صوتا حسنا ظنوا أن هذا هو جمال القرآن ، فقالوا للقارئ : سبحان من أعطاك ! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة أو مجرد التفسير ومعرفة القصة ، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها ! فقبح الجهل . ! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع . . . كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها ! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون ، وتلا القرآن وهو كلام مبدع الكون وتلطف في تصوير المعاني ، وألبسها أجمل لباس ، فأعرض العقلاء فضلا عن العامة ! فما للعامة لا يتعلمون ؟ وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون ؟ وما للناس لا يكادون يفقهون ؟ .
وذكرنا نموذجا عن هذه السورة استنشاطا لهمم العقلاء ، وحثا لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه ، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض ! وجليّ أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة ، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها ! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون ؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها ، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مرا . فيقصدها هذا للنغمات ، وذلك لقصة بسيطة ، وآخر تسلية وتضييعا للزمن ، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها ، / ولكن هذا أرقى مما قبله فقد سار في الطريق وهي الألفاظ ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعد تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه ! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا . وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر ، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر : من أين هذا الحديد ؟ ولم يجلب الماء ؟ وإلى أي مسافة يرتفع ، وما العلة فيه ، ومن أين يأتي الفحم الحجري ، وفي أي الطرق يسير إلى أن يصل إلينا ؟ . فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه . ! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة ، فحسب ! اللهم إلا قدرا يسيرا للفهم ! وهذا لعمر الله انتكاس على الرأس ، واتخاذ الوسيلة مقصدا ، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج ! ذلك مثلهم . ! ! انتهى .
احتج من جوز المعصية على الأنبياء وهم الكرامية والباقلاني- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم ، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه .
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في ( الملل والنحل ) :
ما احتجوا به لا حجة فيه : لأن إخوة يوسف ، عليه السلام ، لم يكونوا أنبياء ؛ ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم ! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن ، قال عز وجل{[40]} : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم / به . . إلى قوله من بعده رسولا } وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم ، فكيف أن يكونوا أنبياء ! ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفروا لهم وأسقطا التثريب عنهم !
وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم أنه قال لهم : { أنتم شر مكانا } {[41]} ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء ، نعم ولا لقوم صالحين ! ؛ إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ، لأن الصالحين ليسوا شرا مكانا ! وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم ، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا . ولا يحل للمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته ! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا ، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم ! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم : " إنما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولاد الأنبياء أنبياء ! " فهذه الغفلة شديد وزلّة عالم ، من وجوه :
أولهما : أنه دعوى لا دليل على صحتها !
وثانيهما : أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في العهد كما نبئ عيسى عليه السلام ، وكما أوتي يحيى الحكم صبيا ، فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا وقد عاش عامين غير شهرين ، وحاشا الله من هذا . . !
وثالثهما : أن ولد نوح كان كافرا بنص القرآن : عمل عملا غير صالح . فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا ، وحاشا لله من هذا . . !
ورابعهما : لو كان ذلك ، لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم ، بل جميع أهل الأرض أنبياء ، لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء ، لأن / أباهم نبي ، وأولاد أولادهم أنبياء أيضا لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء ، وهكذا . . . أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا ! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به وبالله تعالى التوفيق . . !
وذكروا يعني الكرامية ومن وافقهم أيضا أخذ يوسف عليه السلام أخاه ، وإيحاشه أباه عليه السلام منه ، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه ، فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال ! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر إخوته ، ثم أمر من هتف{[42]} { أيتها العير إنكم لسارقون } وهم لم يسرقوا شيئا ، ويقول الله تعالى{[43]} : { ولقد همت به ، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ؛ وبخدمته لفرعون ، وبقوله للذي كان معه في السجن{[44]} : { اذكرني عند ربك } .
قال ابن حزم : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته ، فنقول وبالله تعالى نتأيد : أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه . وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا . ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف برسول الله صلوات الله عليه ؛ وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين ، في قوم رحّالين خصاصين في لسان / آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى ! فلم يكن عند يوسف عليه السلام ، علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو ولا ميت ، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ولا وجد أحدا يثق به ، فيرسل إليه ، للاختلاف الذي ذكرنا . وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ، ولسانا واحدا وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ، والرفاق سائرة ومقبلة ، والبرد ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة{[45]} ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ، ولكن كما قدمنا ! ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيازهم عنده فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ! وأما قول يوسف لإخوته { إنكم لسارقون } وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله ، في وعاء أخيه دونهم ، فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ، ولم يقل عليه السلام : إنكم سرقتم الصواع ، وإنما قال{[46]} : { نفقد صواع الملك } وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقدا له بلا شك ! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقيه في حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ، ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير ، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس ، إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا ، قال الله تعالى{[47]} : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } . وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا ، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى . ولعل ذلك السجود / كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام . إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك ! وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن{[48]} : { اذكرني عند ربك } فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد ! وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل . لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضّه عليه ! وهذا فرض من وجهين : أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه ، والثاني : دعاؤه إلى الخير والحسنات . وأما قوله تعالى{[49]} : { فأنساه الشيطان ذكر ربه } فالضمير الذي في ( أنساه ) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن ، أي : أن الشيطان أنساه . أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ، ويحتمل أيضا أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام ، وبرهان ذلك قول الله عز وجل{[50]} : { وادّكر بعد أمة } فصح يقينا أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر . وحتى لو صح أن الضمير من ( أنساه ) راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب . إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء ! وأما قوله{[51]} : { همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال : ( إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ! فيكف برسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ؛ قلنا : نعم ! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك ؛ إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره ، لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين : إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها : / كما قال تعالى{[52]} : { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } وكما يقول القائل : لقد هممت بك ، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها . وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدّ القميص . والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله { ولقد همت به } ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال : { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل . وبهذا نقول . وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه . ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة ، وهذا لا شك فيه ! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ، ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك . وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن ، إذ قال للأنصاريين حين لقيهما : " هذه صفية " {[53]} ! ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى{[54]} : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ! } فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنى : سوء هم أم غير سوء ؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال : إنه ليس بسوء لعاند الإجماع . فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء ، فقد صرف عنه الهم بيقين ! وأيضا فإنها قالت{[55]} : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق{[56]} { إن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين } فصح أنها كذبت بنص القرآن ، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا فما هم بالزنى قط . ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين ، وهذا بيّن جدا ! وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال{[57]} : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } فصح عنه أنه قط لم يصب إليها .
انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان . وإنما نقلت كلامه برمته لأنه كما قيل :