ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله :
( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون153 ) .
( اذ تصعدون ) متعلق ب ( صرفكم ) أو بقوله ( ليبتليكم ) ، أو بمقدر . والاصعاد الإبعاد في الأرض . أي تبعدون في الفرار ، وقرئ : ( تصعدون ) . من الثلاثي ، أي في الجبل ( ولا تلوون ) أي لا تعطفون بالوقوف ( على أحد ) أي من قريب ولا بعيد ، من الدهش والروعة ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، الى ترك الفرار من الأعداء والى العود والكرة عليهم . وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقا بوعد الله ومراقبة له .
قال السدي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد ، فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم الى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " الي عباد الله ! الي عباد الله " ! فذكر الله صعودهم الى الجبل – ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : ( إذ تصعدون ) . . . الخ –قال ابن كثير : وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد .
وفي حديث البراء رضي الله عنه في ( مسند الإمام أحمد ) أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم الا اثنا عشر رجلا . وروى مسلم عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من / الأنصار ورجلين من قريش " ( فأثابكم ) أي جازاكم بهذا الهرب والفرار ( غما بغم ) أي غما متصلا بغم ، يعني غم الهزيمة والكسرة ، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قتل . وقيل الباء بمعنى مع ، وقل بمعنى على ، وهما قريبان من الأول . وقيل الباء للمقابلة والعوض ، أي أذاقكم غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عصيانكم أمره . قاله الزجاج . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم للمشركين ، وقيل : المعنى غما بعد غم أي غما مضاعفا . ثم أشار الى سر ذلك بقوله : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) أي لتتمرنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات فيها ، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة ، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم ، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع . وقوله : ( ولا ما أصابكم ) من الغموم والمضار .
قال العلامة ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقيل جازاكم غما بما غممتم به لرسوله بفراركم عنه ، وأسلمتموه الى عدوه . فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه . والقول الأول أظهر لوجوه :
أن قوله ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم ، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر ، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح ، فنسبوا بذلك السلب ، وهذا انما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .
أنه مطابق للواقع ، فانه حصل لهم غم فوات الغنيمة ، ثم أعقبه غم الهزيمة ، ثم غم الجراح الذي أصابهم ، ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم . وليس المراد غمين اثنين خاصة ، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .
أن قوله ( بغم ) من تمام الثواب ، لا انه سبب جزاء الثواب . والمعنى أثابكم غما متصلا بغم ، جزاء على ما وقع منكم من الهرب ، واسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم ، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم ، وتنازعكم في الأمر وفشلكم . وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه ، فترادفت عليهم الغموم ، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها . ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر . ومن لطفه بهم ، ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من أمور الطباع ، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة ، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة الى الفعل ، فيترتب عليها آثارها المكروهة ، فعلموا حينئذ أن التوبة منها ، والاحتراز من أمثالها ، ودفعها بأضدادها ، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة الا به ، فكانوا أشد حذرا بعدها ، ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها . وربما صحت الأجسام بالعلل .
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير ، ويجوز أيضا استعماله في الشر ، لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب اليه عقله ، أي رجع اليه . قال تعالى : ( واذ جعلنا البيت مثابة للناس ) . والمرأة تسمى ( ثيبا ) لأن الواطئ عائد اليها . وأصل الثواب كل ما يعود الى / الفاعل من جزاء فعله ، سواء كان خيرا أو شرا ، الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير . فان حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم ، كما يقال : تحيته الضرب وعتابه السيف ، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد : ( فبشرهم بعذاب ) –قاله الرازي- .
قال المفضل : ( لا ) زائدة ، والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم ، كقوله : ( أن لا تسجد ) ، و : ( لئلا يعلم ) ، أي أن تسجد وليعلم .
وعندي أنه بعيد ، لا سيما مع تكرار ( لا ) في المعطوف ، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها ، فالوجه ما سلف .
( والله خبير بما تعملون ) خيرا وشرا ، قادر على مجازاتكم ، وفيه أعظم زاجر عن / الإقدام على المعصية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.