محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي من المستأهلين لمقام الشفاعة / كالنبيين والملائكة . وهذا تكذيب لقولهم :هؤلاء شفعاؤنا عند الله { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة ، في إطلاق الإذن ، تباشروا بذلك { قالوا } أي سائلا بعضهم بعضا { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } أي قال القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي ذو العلو والكبرياء . ليس لملك ولا لنبي أن يتكلم إلا بإذنه ، وأن يشفع إلا لمن ارتضى .

قال ابن الكثير :هذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، فسمع أهل السماوات كلامه ، أرعدوا من الهيبة ، حتى يلحقهم مثل الغشى . قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما .

قال الزمخشري :فإن قلت : بم اتصل قوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت ( حتى ) غاية ؟ قلت :بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن . وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد مليّ من الزمان وطول من التربص . ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل{[6276]} { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا*يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } أي : وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال ، عظمة وسموّا من ذي الجلال ، فأنّى ينالها جماد لا يعقل ، لا سيما وهو عدو للكبير المتعال ، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء ، وحرمناهم من مقامها ، بأجلى بيان وأفصح مقال .

وفى الآية تأويل آخر . وهو أن معنى قوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم } أي عن قلوب المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا لاهين في الدنيا . قال مجاهد : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } أي كشف عنها الغطاء يوم القيامة . وقال الحسن : أي كشف عما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم / هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار . واختار ابن جرير القول الأول ، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة .

قال ابن كثير :وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه . لصحة الأحاديث فيه والآثار ، أي ولورود ما يؤيده في آية أخرى ، والقرآن يفسر بعضه بعضا وذلك في قوله تعالى{[6277]} { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } نعم ، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه ، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل ، ما وجد إليها سبيل .


[6276]:[78/النبأ/37و38].
[6277]:انظر الصفحة رقم 92 من الجزء الثاني والعشرين (طبعة الحلبي الثانية).