سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الحج . وفي السورة حملة عنيفة على أخلاق المنافقين ، وبيان كذبهم ، وفضح دسائسهم ومناوراتهم . وقد ذُكر المنافقون في عدد من السور المدنية ، ولكن هذه السورة غالبها عنهم . وفيها إشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم . وقد اشتملت على طائفة من أوصافهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين .
وعلة ظهور حركة المنافقين في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى المدينة كان له بها قوة ، وكان معظم أهل المدينة مسلمين ، حتى لم يبق بيت عربي فيها إلا دخله الإسلام ، فكان موقف الرسول فيها من مركز القوة ، على خلاف موقفه في مكة ، حيث لم يكن له تلك القوة ، ولا ذلك النفوذ حتى يكون هناك فئة من الناس ترهبه أو ترجو خيره . . فتتملقه وتتزلّف إليه في الظاهر ، وتتآمر عليه وتكيد له ولأصحابه وتمكر بهم في الخفاء .
فظهرت حركة المنافقين ، فكانوا يتظاهرون بالإسلام ، ويصلون مع المسلمين ، ويحضرون مجالسهم ويستمعون إلى الرسول الكريم ، وإذا خرجوا من عنده حرّفوا ما سمعوا من الأقوال ، واجتمعوا مع شياطينهم من اليهود ، وأخذوا يتآمرون على المسلمين ، ويطعنون فيهم ، ويحاولون أن يزعزعوا إيمان الضعفاء من المسلمين . وكان لهم دور كبير في زعزعة إيمان بعضهم عن طريق الإرجاف وبثّ الأكاذيب في المدينة ، ففضحهم القرآن الكريم في أكثر من سورة .
وهنا تذكر السورة أنهم يعلنون إيمانهم بألسنتهم غير صادقين ، ويجعلون أيمانهم الكاذبة وقاية لهم من وصف الكفر الذي هم عليه ، ومجازاتهم به . وقد وصفتهم بوصف عجيب فبينت أنهم ذوو أجسام حسنة تعجب من رآها ، وأصحاب فصاحة تعزّ السامعين وهم مع ذلك فارغة قلوبهم من الإيمان كأنهم خشب مسندة لا حياة فيهم . { هم العدو فاحذرهم ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون } .
وبينت السورة بوضوح أن ما زعمه المنافقون من أنهم أعزة وأن المؤمنين أذلة ، وما توعدوا به المؤمنين من إخراجهم من المدينة ، كله هراء سخيف . فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين . { ولكن المنافقين لا يعلمون } .
وفي ختام السورة يوجه الله الخطاب للمؤمنين ، بأن لا تلهيهم أموالهم
ولا أولادهم عن ذكر الله ، وأن ينفقوا في سبيل الله ، من قبل أن يأتي أحدهم الموت ، فيندم ويتمنى أن لو تأخر أجله { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، والله خبير بما تعملون } .
المنافق : هو من يُظهر الإيمان ويبطن الكفر .
لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة ، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون ، قد تستّروا بأيمانهم ، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم ، وهم يصدّون الناس عن الإسلام ، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين . وأنهم جُبناء ، فرغم ضخامة أجسامهم ، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم ، يظنّون كل صيحة عليهم .
ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى :
{ إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } .
فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون إليه ويحلفون عنده بأنهم مؤمنون به ، يكونون غير صادقين ، والله يعلم أن سيدنا محمداً رسول الله ، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله :
{ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ }
كذبوا فيما أخبَروا به ، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .
ثم بين أنهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم ، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين .
تفسير سورة المنافقين{[1]} مدنية
{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها{[1103]} ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج ، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ليبقى جاههم ، وتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون ، لكي يحذر العباد منهم ، ويكونوا منهم على بصيرة ، فقال : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا } على وجه الكذب : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق ، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله ، فإن { اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم ، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم .
قوله تعالى : " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبدالله بن أبي ابن سلول يقول : " لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا " . وقال : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل : " إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - ليخرجن الأعز منها الأذل " فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( إن الله قد صدقك ) خرجه الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حول حجارة ، ويجعل النطع{[15021]} عليه حتى تجيء أصحابه . قال . : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا{[15022]} فغاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبدالله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبدالله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبدالله : إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده . ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال زيد : وأنا رِدْف عمي{[15023]} فسمعت عبدالله بن أبي فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد . قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أنْ مَقَتَك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون{[15024]} . قال : فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع{[15025]} على أحد . قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا . ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال أبشر ! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر . فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) . وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا ، وخبره صدق . وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال : إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال ؛ شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق . وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق . وقد مضى في سورة " التوبة " القول في هذا مستوفى والحمد لله{[15026]} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى ) . والمعنى : المؤمن الكامل إذا حدث صدق . والله اعلم .
قوله تعالى : " قالوا نشهد إنك لرسول الله " قيل : معنى " نشهد " نحلف . فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب{[15027]} ، ومنه قول قيس بن ذريح .
وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها لِيَا
ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه . " والله يعلم إنك لرسوله " كما قالوه بألسنتهم . " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم . وقال الفراء : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر . وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب ، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب . ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب . وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة " مستوفى{[15028]} وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى : " يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم{[15029]} " [ التوبة : 56 ] .