الأولى- هذه الآية مشكلة ؛ لأنه قال جل وعز : " اصطفينا من عبادنا " ثم قال : " فمنهم ظالم لنفسه " وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال النحاس : فإن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس " فمنهم ظالم لنفسه " قال : الكافر . رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا . وعن ابن عباس أيضا " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية : فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ، أي كافر . وقال الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في " يدخلونها " يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم . وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة " وكنتم أزواجا ثلاثة " {[13148]} [ الواقعة : 7 ] الآية . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم . ورواه مجاهد عن ابن عباس . قال مجاهد : " فمنهم ظالم لنفسه " أصحاب المشاهدة ، " ومنهم مقتصد " أصحاب الميمنة ، " ومنهم سابق بالخيرات " السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في " يدخلونها " يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا . وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء ، وابن مسعود وعقبة بن عمرو ومنة ، والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر . و " المقتصد " قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها ؛ فيكون " جنات عدن يدخلونها " عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين ، وروي عن أبي سعيد الخدري . وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم . وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج . وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : ( كلهم في الجنة ) . وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) . فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله : " أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " مضافا حذف كما حذف المضاف في " واسأل القرية " {[13149]} [ يوسف : 82 ] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم ، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " {[13150]} [ هود : 31 ] أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : " إن الله اصطفى لكم الدين " {[13151]} [ البقرة : 132 ] . قال النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فيكون : " جنات عدن يدخلونها " للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر ؛ لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى .
قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك . وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية .
الثانية- قوله تعالى : " ثم أورثنا الكتاب " أي أعطينا . والميراث ، عطاء حقيقة أو مجازا ؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و " الكتاب " ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . " اصطفينا " أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اصتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . " من عبادنا " قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وورث سليمان يرثوه . وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : " وورث سليمان داود " {[13152]} [ النمل : 16 ] ، وقال : " يرثني ويرث من آل يعقوب " {[13153]} [ مريم : 6 ] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب . " فمنهم ظالم لنفسه " من وقع في صغيرة . قال ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال الضحاك : معنى " فمنهم ظالم لنفسه " أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك . الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المعلم ، والظالم الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر . يروى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا . فقال{[13154]} : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره . وقال بعض أهل المسجد في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ؛ وهم كلهم مغفور لهم .
قلت : ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ، ومنه قول جابر بن حُنَي التغلبي :
نعاطي الملوك السّلم ما قصدوا لنا *** وليس علينا قتلُهم بمحرّم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات . " ذلك هو الفضل الكبير " يعني إتياننا الكتاب لهم . وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير . وقيل : وعد الجنة لهؤلاء الثلاث فضل كبير .
الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا ، كقوله تعالى : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " {[13155]} [ الحشر : 20 ] . وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل . ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته . وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليدبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادَّع في الميراث . وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج " {[13156]} على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ، كقوله تعالى : " لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " {[13157]} الأعراف : 167 ] ، وقوله : " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " {[13158]} [ الشورى : 49 ] ، وقوله : " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " [ الحشر : 20 ]
وغاية هذا الجود أنت وإنما *** يوافى إلى الغايات في آخر الأمر
ولما كان معنى الوصفين : فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلاً للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا ، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم ، قال عطفاً على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم ، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين : { ثم أورثنا } أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه ، وعبر في غير هذه الأمة بقوله
{ ورثوا الكتاب }[ الأعراف : 169 ] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين ، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك : وأورثناكه ثم أورثناه ، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن " من " في { أوحينا إليك من } للبيان فقال : { الكتاب } أي القرآن باتفاق المفسرين ، قاله الأصفهاني - الجامع لكل كتاب أنزلنا ، فهو أم لكل خير ، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي : إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله { الذين اصطفينا } أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك { من عبادنا } أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم - نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقل عن ابن جرير أنه قال : الإرث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، فثم هنا للترتيب ، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان ، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن ، فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها ، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط ، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون .
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان ، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم ، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس ، ويصدع القلوب خوف البأس : { فمنهم } أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد { ظالم لنفسه } أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر ، وهذا القسم هم أكثر الوراث وهم المرجئون لأمر الله .
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة ، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال : { ومنهم مقتصد } أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً { ومنهم سابق بالخيرات } أي العبادات وجميع أنواع القربات ، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً ، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا ، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويؤيد هذا قول الحسن : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته . وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة ، وليكونوا أقرب إلى الجنات ، كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر ، وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الأعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار ، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً ، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله ، وهذا على تقدير عود الضمير في { منهم } على { الذين } لا على { العباد } وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هم التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر - وإن كانت ضعيفة - عن الصلاحية لتقوية ذلك ، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : " أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة " - ثم قرأ { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } . وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلهم من هذه الأمة " وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه بغير سند : وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : " كلهم في الجنة "
وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد . وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، وقال قتادة : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابقون المقربون .
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات ، أشار إلى عظمته بقوله : { بإذن الله } أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في اللوامع : ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته ، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره - انتهى . ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا ، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه : { ذلك } أي السبق أو إيراث الكتاب { هو } مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل { الفضل الكبير * } .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } .
المراد بالكتاب في الآية ، كل كتاب أنزله إلى عباده . وقيل : المراد به القرآن الحكيم ؛ فقد اصطفى الله من عباده هذه الأمة المباركة الفضلى ؛ لتقوم بكتابه الحكيم فتبشر الناس بعلومه وأخباره وأحكامه ، وما تضمنه للعالمين من منهج قويم تهتدي به البشرية ، لتحيى به آمنة مطمئنة ، مبرأة من الأمراض والمفاسد والشرور ، ثم قسَّم الله هذه الأمة من حيث احتمالها لكتابه الحكيم ومدى التزامها بشريعته وأحكامه فجعلهم أصنافا ثلاثة .
أما الصنف الأول : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } واختلفوا في تأويله . فقيل : ذلكم المفرِّط في دينه ، المخالف أمر ربه . وقيل : الكافر أو الفاسق . وقيل : هو المؤمن العاصي . وهو الأولى بالصواب ؛ لأن الكافرين المفرطين الفاسقين عن أمر الله لا يكونون في زمرة المسلمين الذين اصطفاهم الله لحمل كتابه وتبليغه للناس .
وأما الصنف الثاني : { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } عرّفه ابن كثير رحمه الله بقوله : هو المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات .
وأما الصنف الثالث : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو الذي يفعل الواجبات والمندوبات ولا يأتي المناهي والمكروهات قال ابن عباس في تأويل قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورَّثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقُهم يدخلُ الجنة بغير حساب .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال في ذلك : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب . وثلث يحاسَبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول ما هؤلاء – وهو أعلم تبارك وتعالى – فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يُشركوا بك فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي .
قوله : { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } { ذَلِكَ } ، في موضع رفع مبتدأ . وخبره { الْفَضْلُ } و { هو } ضمير فصل بين المبتدأ وخبره . و { الْكَبِيرُ } صفة للخبر . ويجوز أن يقال : { ذَلِكَ } ، مبتدأ أول . و { هو } مبتدأ ثان . و { الفضل } خبر المبتدأ الثاني . والمبتدأ الثاني وخبره ، خبر عن المبتدأ الأول{[3871]} .
والمعنى : أن إيتاء الكتاب لهذه الأمة فضل كبير من الله لهم . ما وعدهم الله به جميعا من الجنة له فضل من الله كبير . وقيل : الإشارة عائدة إلى السابق بالخيرات . فسَبْقُهُ بالخيرات وما أعده الله له من عظيم الجزاء لهو فضل من الله كبير فٌضِّلَ به على من دونه في المنزلة .