والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية . وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال . وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا ، والمجاهد ينفق على نفسه ، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ؛ فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله . وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة :
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، والله يقبض ويبسط ، وإليه ترجعون ) . .
وإذا كان الموت والحياة بيد الله ، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء ، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق . إنما هو قرض حسن لله ، مضمون عنده ، يضاعفه أضعافا كثيرة . يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ؛ ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ، ورضى وقربى من الله .
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله ، لا إلى حرص وبخل ، ولا إلى بذل وإنفاق :
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف . فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله : ( وإليه ترجعون ) . .
وإذن فلا فزع من الموت ، ولا خوف من الفقر ، ولا محيد عن الرجعة إلى الله . وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله ، وليقدموا الأرواح والأموال ؛ وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة ، وأن أرزاقهم مقدرة ، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة . ومردهم بعد ذلك إلى الله . .
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات . . أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء :
( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؟ ) . . إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان : ( ألم تر ؟ ) . . وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار .
ومن مشهد الألوف المؤلفة ، الحذرة من الموت ، المتلفتة من الذعر . . إلى مشهد الموت المطبق في لحظة ؛ ومن خلال كلمة : ( موتوا ) . . كل هذا الحذر ، وكل هذا التجمع ، وكل هذه المحاولة . . كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة : ( موتوا ) . . ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة ، وضلالة المنهج ؛ كما يلقي صرامة القضاء ، وسرعة الفصل عند الله .
( ثم أحياهم ) . . هكذا بلا تفصيل للوسيلة . . إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة . المتصرفة في شؤون العباد ، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء . . وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة .
ونحن في مشهد إماتة وإحياء . قبض للروح وإطلاق . . فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير : ( والله يقبض ويبسط ) . . متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار .
وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد ، إلى جوار التناسق العجيب في أحياء المعاني وجمال الأداء . .
اعتراض بين جملة : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] إلى آخرها ، وجملة { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } [ البقرة : 246 ] الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون جملة : { واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] فكانت ذات ثلاثة أغراض .
و { القرض } إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله ، ويطلق مجازاً على البذل لأجل الجزاء ، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاءَ الثواب ، ففعل ( يقرض ) مستعمل في حقيقته ومجازه .
والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يقرض الله } مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنَّ المستفهم لا يدري مَن هو أهل هذا الخير والجديرُ به ، قال طرفة :
إذا القوم قالوا مَن فتى خِلْتُ أنني *** عُنِيتُ فلَم أَكسَلْ ولم أتَبَلَّدِ
و ( ذا ) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملاً في معناه كما تقول وقد رأيتَ شخصاً لا تعرفه : ( مَن ذا ) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال ( ذا ) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يَتصوَّر المتكلم في ذهنه شخصاً موهوماً مجهولاً صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه ، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلُّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعلٍ بعد اسم الإشارة ، قال النُّحاة كلهم بصريُّهم وكوفيُّهم : بأن ( ذا ) مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود ، فعدُّوه اسمَ موصول ، وبوَّب سيبويه في « كتابه » فقال : « باب إجرائهم ذَا وحدَه بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع ( ما ) و ( من ) في الاستفهام فيكون ( ذا ) بمنزلة الذي ويكون ما أي أو من حرفَ الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما أي أو من بمنزلة اسم واحد » ومثَّله بقوله تعالى : { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } [ النحل : 30 ] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم ( ذا ) عند الكوفيين ، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على ( ذا ) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول ، كما في هذه الآية ، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة ، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مُفاد اسم الموصول ، فيكون ما بعده من فِعل أو وصف في معنى صلة الموصول ، وإنما دوَّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز ، فكان تدوينها قليل الجدوى .
والوجه أن ( ذا ) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية ، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال ، فوزان قوله تعالى :
{ ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته :
* نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيق *
والإقراض : فعل القرض . والقرض : السلف ، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه ، واستعمل هنا مجازاً في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيداً في تحقيق حصول التعويض والجزاء . ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضَى الله به إلاَّ إذا كان مبرَّأً عن شوائب الرياء والأذى ، كما قال النابغة :
وقيل : القرض هنا على حقيقته وهو السلف ، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يُقرض الناس طمعاً في الثواب كأنه أقرض الله تعالى ؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي " أن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه " الحديث . وقد رووا أن ثواب الصدقة عشْر أمْثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله .
وقرأ الجمهور « فيضاعفُه » بألف بعد الضاد ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين . ورُفع « فيضاعفُه » في قراءة الجمهور ، على العطف على { يقرض } ، ليدخل في حيز التحضيض معاقباً للإِقراض في الحصول ، وقرأه ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء على جواب التحضيض ، والمعنى على كلتا القراءتين واحد .
وقوله : { والله يقبض ويبصط } أصل القبض الشد والتماسك ، وأصل البسط : ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال ، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان : منها القبض بمعنى الأخذ { فَرِهانٌ مقبوضة } [ البقرة : 283 ] وبمعنى الشح { ويقبضون أيديَهم } [ التوبة : 67 ] ومنها البَسط بمعنى البذل { الله يبسط الرزق لمن يشاء } [ الرعد : 26 ] وبمعنى السخاء { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] ومن أسمائه تعالى القابض الباسط بمعنى المانع المعطي .
وقرأ الجمهور : ( ويبسط ) بالسين ، وقرأه نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر وزوج عن يعقوب بالصاد وهو لغة .
يحتمل أن المراد هنا : يقبض العطايا والصدقات ويبسط الجزاء والثواب ، ويحتمل أن المراد يقبض نفوساً عن الخير ويبسط نفوساً للخير ، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على المنفق في سبيل الله ، والتقتير على البخيل . وفي الحديث " اللهم أعط منفقاً خلفا وممسكاً تلفاً " وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع « أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد » أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط ، والأصل هو السين ، ولكنها قلبت صاداً في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها ، ومخرجها بعيد عن مخرج السين ؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد .
وقوله : { وإليه ترجعون } خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا ، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير .
روي أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : " أو أنّ الله يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : " أرني يدك " فناوله يده فقال : " فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم من عذق رَدَاح ودار فَسَاح في الجنة لأبي الدحداح " .