في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

25

( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس ، سواء العاكف فيه والباد . ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) . .

وكان ذلك فعل المشركين من قريش : أن يصدوا الناس عن دين الله - وهو سبيله الواصل إليه ، وهو طريقه الذي شرعه للناس ، وهو نهجه الذي اختاره للعباد - وأن يمنعوا المسلمين من الحج والعمرة إلى المسجد الحرام - كما فعلوا عام الحديبية - وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام ، وواحة اطمئنان . يستوي فيه المقيم بمكة والطارئ عليها . فهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم : ( سواء العاكف فيه والباد ) .

ولقد كان هذا النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام . يلقى فيها السلاح ، ويأمن فيها المتخاصمون ، وتحقن فيها الدماء ، ويجد كل أحد فيها مأواه . لا تفضلا من أحد ، ولكن حقا يتساوى فيه الجميع .

ولقد اختلفت أقوال الفقهاء في جواز الملكية الفردية لبيوت مكة غير المسكونة بأهلها . وفي جواز كراء هذه البيوت عند من أجاز ملكيتها . . فذهب الشافعي رحمه الله - إلى أنها تملك وتورث وتؤجر محتجا بما ثبت من أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اشترى من صفوان بن أمية دار بمكة بأربعة آلاف درهم فجعلها سجنا . وذهب إسحاق بن راهويه - رحمه الله - إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وقال : توفى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة [ جمع ربع ] إلا السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن . وقال عبد الرزاق عن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها . وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم . وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها . فكان أول من بوب سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن اتخذ لي بابين يحبسان لي ظهري [ أي ركائبي ] قال : فلك ذلك إذن . وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء . . وتوسط الإمام أحمد - رحمه الله - فقال : تملك وتورث ولا تؤجر . جمعا بين الأدلة .

وهكذا سبق الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام ، ومنطقة الأمان ، ودار الإنسان المفتوحة لكل إنسان !

والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم تذقه من عذاب أليم ) . . فما بال من يريد ويفعل ? إن التعبير يهدد ويتوعد على مجرد الإرادة زيادة في التحذير ، ومبالغة في التوكيد . وذلك من دقائق التعبير .

ومن دقائق التعبير كذلك أن يحذف خبر إن في الجملة : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . . . )فلا يذكرهم ما لهم ? ما شأنهم ? ما جزاؤهم كأن مجرد ذكر هذا الوصف لهم يغني عن كل شيء آخر في شأنهم ، ويقرر أمرهم ومصيرهم !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ} (25)

هذا مقابل قوله { وهدوا إلى صراط الحميد } [ الحج : 24 ] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] كما تقدم . فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني . والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله .

وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان .

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به .

وجاء { يصدّون } بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم .

أما صيغة الماضي في قوله : { إن الذين كفروا } فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا } [ الحج : 24 ] .

وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة .

والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم . والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ . ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت . والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ . فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة ؟ ( يعني المسلمين ) . ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية . وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك . وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة .

ووصف المسجد بقوله : { الذي جعلناه للناس } الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله .

والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادِي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي . وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة .

وقرأ الجمهور { سواءٌ } بالرفع على أنه مبتدأ { والعاكف فيه } فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل { جعلناه } .

وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل { جعلناه } .

والعكوف : الملازمة . والبادي : ساكن البادية .

وقوله { سواء } لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة .

وكتب { والباد } في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير { والبادِي } بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها . وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل . ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف .

وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف . والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير .

وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره . ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعَى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار . وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد . ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة .

وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه . وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وقال مالك والشافعي : دور مكة مِلك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة . وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً . وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها . وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً . والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها . ووجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي . ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم .

وخبر { إن الذين كفروا } محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .

وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } تذييل للجملة السابقة لما في ( مَن ) الشرطية من العموم .

والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور . والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس .

والباء في { بإلحاد } زائدة للتوكيد مثلها في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته .

والباء في { بظلم } للملابسة . فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام .

و ( من ) في قوله : { من عذاب أليم } مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة ( مِن ) وقوعها بعد نفي أو نهي . ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم .