في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

29

ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة ، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه ) التي فسرها رسول اللّه - [ ص ] - بأنهم " أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم " . . فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان !

يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب :

( يا أيها الذين آمنوا ، إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل اللّه . والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . هذا ما كنزتم لأنفسكم ، فذوقوا ما كنتم تكنزون ) . .

وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون اللّه ، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء . فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع ؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه .

وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال :

منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان . ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه - بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم - لتلك الخطايا ! ومنها الربا - وهو أوسع أبوابها وأبشعها - وغيرها كثير .

كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق ؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية ، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل اللّه .

ولابد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول اللّه تعالى في ذلك .

( إن كثيراً من الأحبار والرهبان . . ) .

للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة . ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير . . ولا يظلم ربك احداً . .

والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل . وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة . وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة !

/خ35

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك ، واللام في { ليأكلون } لام التأكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون{[5617]} تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه{[5618]} ، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام ، ونحو ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى { بالباطل } ، يعم هذا كله ، وقوله { يصدون } ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و «صد » يستعمل واقفاً ومتجاوزاً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ]

صددت الكأس عنا أم عمرو*** وكان الكأس مجراها اليمينا{[5619]}

و { سبيل الله } الإسلام وشريعة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل ، والأول أرجح ، وقوله { والذين } ابتداء وخبره { فبشرهم } ، ويجوز أن يكون { والذين } معطوفاً على الضمير في قوله { يأكلون } على نظر في ذلك ، لأن الضمير لم يؤكد ، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال : لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله { والذين يكنزون } فأبى ذلك أبي بن كعب وقال :«لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي » فألحقها .

قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية ، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال : بل هي فينا ، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة{[5620]} ، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال ، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون » بغير واو ، و { يكنزون } معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية ، ومنه قول المنخل الهذلي : [ البسيط ]

لا در دري إن أطعمت نازلهم*** قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز{[5621]}

أي محفوظ في أوعيته ، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز ، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]

على شديد لحمه كناز*** بات ينزيني على أوفاز{[5622]}

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، ولذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كل ما أديت زكاته فليس بكنز »{[5623]} وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته ، وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، ولكن قال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله { خذ من أموالهم صدقة }{[5624]} فأتى فرض الزكاة على هذا كله .

قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله { خذ من أموالهم } [ التوبة : 103 ] والضمير في قوله { ينفقونها } يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع ، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [ قيس بن الخطيم ] : [ المنسرح ]

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأي مختلفُ{[5625]}***

ونحن قول حسان : [ الخفيف ]

إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأس*** ود ما لم يعاص كان جنونا{[5626]}

وسيبويه يكره هذا في الكلام ، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }{[5627]} وهي لا تشبهها ، لأن «أو » قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر ، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر ، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه ، فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله ، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه »{[5628]} وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية «تباً للذهب تباً للفضة »{[5629]} ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم ، والفاء في قوله { فبشرهم } ، جواب كما في قوله { والذين } من معنى الشرط ، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط ، وقيل بل هي أبداً للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذاباً أليماً ، وهذا نحو قول الشاعر [ عمرو بن معديكرب ] : [ الوافر ]

وخيل قد دلفت لها بخيلٍ*** تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيعُ{[5630]}


[5617]:- من قولهم: احتجن الشيء بمعنى احتوى عليه وضمّه إليه، ويقال: احتجن عليه بمن حجر، فهو من الإحتجان بمعنى جمع الشيء وضمه، وفي بعض النسخ (يحتجبون) والمعروف أن الاحتجاب بمعنى جمع الشيء وضمه، وفي بعض النسخ (يحتجبون) والمعروف أن الاحتجاب معناه الاختفاء خلف ستار، وعبارة القرطبي (يحجبون).
[5618]:- الكنز للراهب والذي استخرج هذا الكنز هو سلمان الفارسي. وفي العبارة غموض.
[5619]:- البيت لعمرو بن كلثوم- من معلقته المشهورة، وقد سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تعالى في الآية (34) من سورة الأنفال: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}.
[5620]:- الربذة بفتح الراء المشددة، وبفتح الباء: موضع قريب من المدينة. وظاهر الخبر أن عثمان هو الذي أخرج أبا ذر إلى الربذة، ولكن يظهر من رواية البخاري أنه عرض عليه ذلك وترك له حرية الخروج إليها، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: (مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: = إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشيا لسمعت وأطعت).
[5621]:- الدّرّ: اللبن، والدّر أيضا: العمل من خير أو شر، ومنه قولهم: لله درّك، يكون مدحا ويكون ذما، وغلب في مجال المدح: لله "درّك"، وفي مجال الذم: "لا درّ درّك". قال الفراء: وقد استعملوه من غير أن يقولوا (لله)، فيقولون: درّ درّ فلان، ولا درّ درُّه، ومنه هذا البيت. ويروى: "نازلهم" بدلا من "جائعهم"، وقِرْفُ الحتيّ هو سويق المُقل، والمقل هو ثمر شجر الدوم ينضج ويؤكل، يقول: إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم قرف الحتي، فلما نزلوا به قال: لا درّ درّي***الخ.
[5622]:- الراجز يصف جملا، وقد رواه في (اللسان) غير منسوب وبلفظ آخر، قال: أسوق عيرا مائل الجهاز صعبا ينزيني على أوفاز واللحم الكناز: المجتمع الصلب، والنّزو: الوثبان، يقال: نزا ينزو، ومنه: أنزاه ونزّاه تنزية، والوفز: ألا يطمئن في قعود، ويقال" قعد على أوفاز من الأرض، = = يقول: إن جملي صلب مجتمع اللحم يثب بي في سرعة فينزيني فلا أطمئن في قعودي عليه.
[5623]:- أخرج ابن عدي، والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي مال أديت زكاته فليس بكنز)، وأخرجه ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه موقوفا.
[5624]:- من الآية (103) من سورة (التوبة)
[5625]:- البيت لقيس بن الخطيم، وقد أنشده سيبويه مستشهدا على جواز الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر عند فهم المعنى، إذ لم يقل: رضوان.
[5626]:- الشاهد فيه أنه لم يقل: يُعاصيا، ومثل هذا البيت والذي قبله في الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فُهم المعنى قول ابن أحمر يصف رجلا كانت بينه وبينه مشاجرة في بئر (تسمى الطوي)، وأن هذا الرجل رماه بأمر يكرهه، ورمى أباه بمثله على براءتهما منه: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الَّطوِّي رماني.
[5627]:- من الآية (11) من سورة (الجمعة).
[5628]:- رواه الترمذي وحسنه، ورواه ابن ماجة من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد، ذكر ذلك القرطبي وابن كثير، وفي ابن كثير أن الإمام أحمد رواه عن ثوبان بلفظ: لما في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره (قائل ذلك ثوبان)، فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال: (قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة).
[5629]:- رواه عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبا للذهب تبا للفضة) يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر***الخ (ابن كثير).
[5630]:- قائل هذا البيت عمرو بن معد يكرب، والدّلف: المشي رويدا في خطو متقارب، وقيل: هو فوق الدبيب، والشاهد في البيت أن في كلمة (تحية) استعارة تهكمية فيها السخرية منهم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} وفيهما نزّل التضادّ منزلة التناسب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

{ يا أيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله }

استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب ، تحقيراً لهم في نفوسهم ، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم ، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين : مثل عُزير ، بين للمسلمين أنّ كثيراً من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال ، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه ، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالىء الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب ، على الضلال وعلى مناواة الإسلام ، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة ، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب .

وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد ، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته .

وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفاً .

وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلاَم ومُخَيْرِيق .

والباطل ضدّ الحقّ ، أي يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل ، أي أكلاً لا مبرّر له ، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى : { وتأكلون التراث أكلا لما } [ الفجر : 19 ] وقال { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } في سورة البقرة ( 188 ) وقد تقدّم ، وكذلك الباطل تقدّم هنالك .

والباطل يشمل وجوها كثيرة ، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس ، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحبِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة ، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم ، ومنها أكل أموال اليتامى ، وأموال الأوقاف والصدقات .

وسبيل الله طريقهُ استعير لدينه الموصّل إليه ، أي إلى رضاه ، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس ، وإغراءُ الناس بالإعراض عن ذلك . فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها ، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها ، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم ، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد ويعلِّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ .

والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين : اعتباراً بأنّه مضاعف متعدّ ، ولذلك لم يجيء في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره ، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى : { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } في سورة الأعراف ( 45 ) .

{ والذين يكنزون الذهب والفضة ثم لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }

جملة معطوفة على جملة { يأيها الذين آمنوا إن كثيراً } والمناسبة بين الجمْلتين : أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلاً لذلك ، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم ، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة ، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم ، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئاً من العذاب .

وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة : فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك ، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة ، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة ، كما أشارت إليه آية { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 92 ] وقد ورد في « السيرة » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله ، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } ولا شكّ أنّهم من المنافقين .

والكَنز بفتح الكاف مصدر كنز إذا ادّخر مالاً ، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يُخزن ، من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بِمعنى المخلوق .

و { سبيل الله } هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا .

فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد ، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قوماً بأعيانهم .

ومعنى { ولا ينفقونها في سبيل الله } انتفاء الإنفاق الواجب ، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة : إمّا وجوباً مستمرّاً كالزكاة ، وإمّا وجوباً عارضاً كالنفقة في الحجّ الواجبِ ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل .

والضمير المؤنّث في قوله : { ينفقونها } عائد إلى الذهب والفضة .

والوعيد منوط بالكَنز وعدمِ الإنفاق ، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه ، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال ، وفي معرض إيجاب الإنفاق ، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال ، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها ، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة ، ولا إلى تأويل { سبيل الله } بالصدقات الواجبة ، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد ، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة ، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية .

ووقع في « الموطأ » أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز ، أي المذموم المتوعّد عليه في آية { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآيةِ ما هو ؟ فقال : هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة . وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كَنزُك " فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه ، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموماً .

وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز ، وعلى عموم الإنفاق ، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ ، فقال بتحريم كَنز المال ، وكأنّه تأول { ولا ينفقونها } على معنى ما يسمّى عطف التفسير ، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين ، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول : بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم ، فقال له معاوية : وهو أمير الشام ، في خلافة عثمان : إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب ، فقال أبو ذرّ : نزلت فيهم وفينا ، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولاً لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاويةُ إلى عثمان ، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذَر الفتنةَ في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله .

والفاء في قوله : { فبشرهم } داخلة على خبر الموصول ، لتنزيل الموصول منزلة الشرط ، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر ، فضمير الجمع عائد إلى { الذين } ويجوز كون الضمير عائداً إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون . والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أنْ ذَكَر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكَر الكانزين ، أمر رسوله بأن يُنذر جميعهم بالعذاب ، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره : إذا علمتَ أحوالهم هذه فبشّرهم ، والتبشير مستعار للوعيد على طَريقة التهكّم .