ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام :
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل : قتال فيه كبير . وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ؛ وإخراج أهله منه أكبر عند الله ؛ والفتنة أكبر من القتل ، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله غفور رحيم ) . .
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - وكان رسول الله [ ص ] قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين . فلما فتحه وجد به : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة - بين مكة والطائف - ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم . . ولا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك " - وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله [ ص ] أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منها بخبر . وقد نهى أن استكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأنا ماض لأمر رسول الله [ ص ] فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم . فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - رضي الله عنهما - فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون . حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة ، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون ، فقتلت السرية عمرا ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير . وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة . فإذا هي في اليوم الأول من رجب - وقد دخلت الأشهر الحرم - التي تعظمها العرب . وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها . . فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله [ ص ] قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا . فلما قال ذلك رسول الله [ ص ] سقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد . . عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله . .
عمرو : عمرت الحرب . والحضرمي : حضرت الحرب . وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب !
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية ، وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب ، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة ! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية . فقطعت كل قول . وفصلت في الموقف بالحق . فقبض الرسول [ ص ] الأسيرين والغنيمة .
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل قتال فيه كبير ) . .
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام ، وتقرر أن القتال فيه كبيرة ، نعم ! ولكن
( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله . والفتنة أكبر من القتل ) . . إن المسلمين لم يبدأوا القتال ، ولم يبدأوا العدوان . إنما هم المشركون . هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله ، والكفر به وبالمسجد الحرام . لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله . ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون . ولقد كفروا بالمسجد الحرام . انتهكوا حرمته ؛ فآذوا المسلمين فيه ، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة . وأخرجوا أهله منه ، وهو الحرم الذي جعله الله آمنا ، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته . .
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام . . وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل . وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام . ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ؛ الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون ، وينتهكون قداستها حين يريدون ! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم ، لأنهم عادون باغون أشرار ، لا يرقبون حرمة ، ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة !
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل . وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي . . وهم المعتدون ابتداء . وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
إن الإسلام منهج واقعي للحياة ، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها ، ولا ترفرف في خيال حالم ، ورؤى مجنحة : لا تجدي على واقع الحياة شيئا
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزنا ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ! . . ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات ، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !
فكيف يواجههم الإسلام ؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة ؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار منالسلاح ، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح ، ولا يتورعون عن سلاح . . ! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا ، لأنه يريد مواجهة الواقع ، لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر ، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة ، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة ، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة !
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه . ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان !
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . . إنه يحرم الغيبة . . ولكن لا غيبة لفاسق . . فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني ( إلا من ظلم ) . . فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول ، لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه !
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . . إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم . . هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . . حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . . صريحا واضحا قويا دامغا ، لا يلف ولا يدور ؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة ، لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . . هذا شر وفساد وبغي وباطل . . فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ، ليضرب من ورائها الحرمات ! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ؛ في سلام مع ضمائرهم ، وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة ، وتمكين هذه القاعدة ، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . . يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم ، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم :
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) . .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل ، ويرهبه كل باغ ، ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج ، ومن منهج قويم ، ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون . ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ، ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم ، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين ، وتتبع هذا المنهج ، وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ، ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره ، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ، وينبهها إلى الخطر ؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد ، والصبر على الحرب ، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر :
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل ، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره ، وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 217 )
وقوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام } الآية ، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه( {[2014]} ) من بدر الأولى ، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق ، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره . والأول أشهر ، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى ، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه ، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم ، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم ، وفر نوفل فأعجزهم ، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم ، فقالت قريش : محمد قد استحل الأشهر الحرم ، وعيروا بذاك ، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم ، فنزلت هذه الآية .
وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت ، وهذا تخليط من المهدوي( {[2015]} ) . وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم( {[2016]} ) ، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة ، وذكر الصاحب بن عباد( {[2017]} ) في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت ، لكونه مؤمراً على جماعة من المؤمنين ، و { قتال } بدل عند سيبويه ، وهو بدل الاشتمال( {[2018]} ) .
وقال الفراء : هو خفض بتقدير عن( {[2019]} ) .
وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار » ، وقوله هذا خطأ( {[2020]} ) ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه » بتكرير عن ، وكذلك قرأها الربيع والأعمش ، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل » دون ألف فيهما ، و { الشهر } في الآية اسم الجنس( {[2021]} ) ، وكانت العرب قد جعل الله لها { الشهر الحرام } قواماً تعتدل عنده( {[2022]} ) ، فكانت لا تسفك دماً ولا تغير في الأشهر الحرم ، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وروى جابر بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى( {[2023]} ) ، فذلك قوله تعالى { قل قتال فيه كبير } ، و { صد } مبتدأ مقطوع مما قبله( {[2024]} ) ، والخبر { أكبر } ، و { المسجد } معطوف على { سبيل الله } ، وهذا هو الصحيح( {[2025]} ) .
وقال الفراء : { صد } عطف على { كبير } ، وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله { وكفر به } عطف أيضاً على { كبير }( {[2026]} ) ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، هذا بين فساده( {[2027]} ) ، ومعنى الآية على قول الجمهور : إنكم يا كفار قريش تستعمظون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرماً عند الله .
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما : قوله { قل قتال فيه كبير } منسوخ بقوله { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ، وبقوله : { فاقتلوا المشركين }( {[2028]} ) [ التوبة : 5 ] .
وقال عطاء : «لم تنسخ ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم » ، وهذا ضعيف( {[2029]} ) .
وقوله تعالى : { والفتنة أكبر من القتل } المعنى عند جمهور المفسرين ، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا( {[2030]} ) أشد اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام ، وقيل : المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا( {[2031]} ) .
وقال مجاهد وغيره : { الفتنة } هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك .
قوله تعالى : { ولا يزالون } ابتداء خبر من الله -عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة ، و { يردوكم } نصب ب { حتى } لأنها غاية مجردة( {[2032]} ) ، وقوله تعالى { ومن يرتدد } [ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ، قالت طائفة من العلماء : يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل .
وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن -على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه : يقتل دون أن يستتاب ، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل( {[2033]} ) .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين : راجع ، فإن أبى ذلك قتل ، وقال عطاء ابن أبي رباح : «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب » ، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين ، واختلف القائلون بالاستتابة : فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام . وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه .
وقال الزهري : «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل » .
وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتداً شهراً فأبى فقتله ، وقال النخعي والثوري : يستتاب محبوساً أبداً ، قال ابن المنذر : واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب .
{ قال القاضي أبو محمد } : كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة ، وحبط العمل إذا انفسد( {[2034]} ) في آخر فبطل( {[2035]} ) ، وقرأ أبو السمال( {[2036]} ) «حبطَت » بفتح الباء في جميع القرآن .
وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه : ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور : ميراثه في بيت المال( {[2037]} ) ، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلإ شذوذاً ، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه( {[2038]} ) .