في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

58

62

ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عند الاستئذان ، وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه : يا محمد . أو كنيته : يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه : يا نبي الله . يا رسول الله :

( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) . .

فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار ، ولا بد للقائد من هيبة . وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ؛ وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . . يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم ، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير .

ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن ، يلوذ بعضهم ببعض ، ويتدارى بعضهم ببعض . . فعين الله عليهم ، وإن كانت عين الرسول لا تراهم : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) . . وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ؛ ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة ، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس .

( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . .

وإنه لتحذير مرهوب ، وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، ويتبعون نهجا غير نهجه ، ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس ، وتختل فيها الموازين ، وينتكث فيها النظام ، فيختلط الحق بالباطل ، والطيب بالخبيث ، وتفسد أمور الجماعة وحياتها ؛ فلا يأمن على نفسه أحد ، ولا يقف عند حده أحد ، ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع :

( أو يصيبهم عذاب أليم )في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله ، ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير ، ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها ، رقيب على عملها ، عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذٗاۚ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63)

هذه الآية مخاطبة لجميع معاصري رسول الله . وأمرهم الله أن لا يجعلوا مخاطبة رسول الله في النداء كمخاطبة بعضهم لبعض فإن سيرتهم كانت التداعي بالأسماء وعلى غاية البداوة وقلة الاهتبال ، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها{[8771]} أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزير{[8772]} ، فالمبتغى في الدعاء أن يقول : يا رسول الله ، وأن يكون ذلك بتوقير وخفض صوت وبر ، وأن لا يجري ذلك على عادتهم بعضهم في بعض قاله مجاهد ، وغيره ، وقال ابن عباس المعنى في هذه الآية إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم { كدعاء بعضكم } على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه .

قال الفقيه الإمام القاضي : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى .

والأول أصح ثم أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم { لواذاً } قد علمهم . واللواذ الروغان والمخالفة وهو مصدر لاوذ وليس بمصدر لاذ لأنه كان يقال له لياذاً{[8773]} ذكره الزجاج وغيره ، ثم أمرهم بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره ، وقوله { يخالفون عن أمره } معناه يقع خلافهم بعد أمره وهذا كما تقول كان المطر عن ريح وعن هي لما عدا الشيء{[8774]} والفتنة في هذا الموضع الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب الأثيم في الآخرة ولا بد للمنافقين من أحد هذين ملكاً وخلفاً .


[8771]:كقوله تعالى في سورة الحجرات: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}، وقوله تعالى في سورة الفتح: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}.
[8772]:من معاني عزره: فخمه وعظمه، قال في اللسان: "وعزره: فخمه وعظمه، والعزر: النصر بالسيف، وعزره عزرا وعزره: أعانه وقواه ونصره".
[8773]:في اللغة: "لاذ به إذا التجأ إليه وانضم واستغاث، ولاوذه لواذا: راوغه" راجع اللسان. وانتصب قوله تعالى: [لواذا] على المصدر في موضع الحال، أي: متلاوذين.
[8774]:الفعل "خالف" يتعدى بنفسه، تقول: خالفت أمر فلان، ويتعدى بإلى، تقول: خالفت إلى كذا، وهنا ضمن الفعل "خالف" معنى "صد" فعدي بعن، وقال أبو عبيدة والأخفش: (عن) زائدة، أي: يخالفون أمره.