في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته ، في الرد على الأعراب الذين قالوا : ( آمنا )وهم لا يدركون حقيقة الإيمان . والذين منوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان :

( قالت الأعراب : آمنا . قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ? والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم . يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين . إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ، والله بصير بما تعملون ) . .

قيل : إنها نزلت في أعراب بني أسد . قالوا : آمنا . أول ما دخلوا في الإسلام . ومنوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك . فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول . وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاما ، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان . فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم . ولم تشربها أرواحهم : ( قل : لم تؤمنوا . ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . .

ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا . فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيمانا واثقا مطمئنا . هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار . ولا ينقص من أجرها شيء عند الله ما بقوا على الطاعة والاستسلام : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) . ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة ، فيقبل من العبد أول خطوة ، ويرضى منه الطاعة والتسليم إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة : ( إن الله غفور رحيم ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

قوله تعالى :{ قالت الأعراب آمنا } ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة ، وكانوا قد أظهروا الإسلام ، وكانت نفوسهم-مع ذلك- دخلة{[10498]} ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : وذهبوا مرة إلى أن يتسموا بالمهاجرين ، فنزلت هذه الآية مسمية لهم بالأعراب ، مُعرفة لهم بذلك أقدارهم ، ومُخرجة ما في صدورهم من صورة معتقدهم ، وهم أعراب مخصوصون كما ذكرنا ، قال أبو حاتم عن ابن الزبير : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ :{ قالت الأعراب } بغير همز ، فرد عليه بهمز وقطع . وقد أخبر الله تعالى أن في الأعراب على الجملة من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المُدّعين في الإيمان :{ لم تؤمنوا } ، أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } . والإسلام يقال بمعنيين ، أحدهما : الدين يعم الإيمان والأعمال ، وهو الذي في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام }{[10499]} [ آل عمران : 19 ] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس »{[10500]} والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له : ما الإسلام ؟ قال : ( بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ){[10501]} ، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص : «أو مسلماً ، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه »{[10502]} الحديث ، فهذا الإسلام ليس هو في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } والمعنى الثاني للفظ الإسلام : هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم ، وهذا هو الإسلام في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } ، و { الإيمان } الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه ، ثم صرح لهم بأن { الإيمان } لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله : { وإن تطيعوا الله } الآية ، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال .

وقرأ جمهور القراء : «لا يلتكم » من لات يليت إذا نقص ، يقال : لاته حقه إذا نقصه منه ، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه . وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو : «لا يألتكم » من ألت يألت وهو بمعنى : لات ، وكذلك يقال : ألتِ بكسر اللام يألت ، ويقال أيضاً في معنى لات ، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية .


[10498]:أصابها الفساد والعيب من الداخل، وفي بعض النسخ"دغلة" بالغين، والداغل هو الذي يبغي الشر لأصحابه ويحسبونه هم خيرا.
[10499]:من الآية(19) من سورة (آل عمران).
[10500]:أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي في الإيمان، ولفظه كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان).
[10501]:رواه البخاري في كتاب الإيمان عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم{إن الله عنده علم الساعة}، ثم أدبر، فقال: ردوه فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.اهـ. وكذلك رواه مسلم والترمذي في كتاب الإيمان، وأبو داود في السنة، وابن ماجه في المقدمة، وأحمد في المسند(1-27، 51، 53-2-107-4-129) واللفظ هنا للبخاري.
[10502]:أخرجه الشيخان في صحيحيهما في كتاب الإيمان وفي كتاب الزكاة، عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال:(أو مسلما)، فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، فقلت: مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال:(او مسلما)، فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكُبه الله في النار). قال الإمام البخاري: ورواه يونس، وصالح، ومعمر، وابن أخي الزهري عن الزهري.