في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث ، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث :

( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات . وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ) . .

ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . . لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .

ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

{ ولنبلونكم } ولنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم ، هلى تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء ؟ { بشيء من الخوف والجوع } أي بقليل من ذلك ، وإنما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم منه ليخفف عليهم ، ويريهم أن رحمته لا تفارقهم ، أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة ، وإنما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم { ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } عطف شيء ، أو الخوف ، وعن الشافعي رضي الله عنه الخوف : خوف الله ، والجوع : صوم رمضان ، والنقص : من الأموال الصدقات والزكوات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن : الثمرات موت الأولاد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم روح ولد عبدي ؟ فيقولون نعم ، فيقول الله : أقبضتم ثمرة فؤاده ، فيقولون نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون حمدك واسترجع ، فيقول الله : ابنو لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد " . { وبشر الصابرين } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( 155 )

وقوله تعالى : { ولنبلونكم } الآية ، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين( {[1434]} ) ، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة ، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن ، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة ، ثم وعد الصابرين أجراً ، وقال عطاء والجمهور : إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى الله عليه وسلم( {[1435]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول أظهر ، { ولنبلونكم بشيء } معناه لنمتحننكم ، وحركت الواو لالتقاء الساكنين ، وقيل : الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر ، و { الخوف } يعني من الأعداء في الحروب ، و { الجوع } الجدب والسنة ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث ، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعاً( {[1436]} ) ، ونقص الأموال : بالجوائح والمصائب ، { والأنفس } : بالموت والقتل ، { والثمرات } : بالعاهات ونزع البركة ، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا( {[1437]} ) فاكتفى بالأول إيجازاً ولذلك وحد ، وقرأ الضحاك { بأشياء } على الجمع ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، وقال بعض العلماء : إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد .


[1434]:- لفظ المعية جاء في كتاب الله عاما كما في قوله تعالى: [وهو معكم أينما كنتم] وقوله: [وهو معهم أينما كانوا] وجاء خاصا كقوله هنا: [إن الله مع الصابرين] وكقوله تعالى: [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون] ولا يمكن أن تحمل على المخالطة مع الناس فهي – في العام – تحمل على العلم والقدرة والسلطان – وفي الخاص على المعونة والنصرة والتأييد.
[1435]:- يعني أن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه عليه السلام في قريش الذين حل بهم البلاء.
[1436]:- الذي في المعاجم أن الجوع: ضد الشبع – أو هو خلو البطن من الطعام، وأن المجاعة هي عام الجدب. ومثلها المجْوعَة، وفيها أيضا أن الغرث هو الجوع، وفي المثل: (غرثان فاربكوا له) أي: اصنعوا له طعاما. وفي المثل: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها).
[1437]:- أي: بقليل من هذا وقليل من هذا، فالتعبير بشيء يوحي بالقلة، وكل ما آذى المؤمن –وإن قل- فهو مصيبة وبلاء.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع}: القحط.

{ونقص من الأموال والأنفس والثمرات}: قحط المطر.

{وبشر الصابرين} على هذه البلية بالجنة.

تفسير الشافعي 204 هـ :

سئل الشافعي عن قول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بشيء مِّنَ اَلْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ اَلاَمْوَالِ وَالاَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ اِلصَّابِرِينَ} قال: الخوف: خوف الصدور؛ والجوع: جوع شهر رمضان؛ ونقص من الأموال: الزكوات؛ والأنفس: الأمراض، والثمرات: الصدقات، وبشر الصابرين على أدائها. (أحكام الشافعي 1/39.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءه قبلهم، ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم:"أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلَمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ البأساءُ والضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ"...

عن ابن عباس قوله: "وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ "ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم، فقال: "وَبَشّرِ الصّابِرِينَ "ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم، فقال: "مَسّتْهُم البَأْسَاءُ والضّرّاءُ وزُلْزِلُوا".

"وَلَنَبْلُوَنّكُمْ": ولنختبرنكم.

"بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ" يعني من الخوف من العدوّ. وبالجوع، وهو القحط. يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوّكم، وبسَنَة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة وتعذر المطالب عليكم فتنقص لذلك أموالكم، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموت ذراريكم وأولادكم، وجدوب تحدث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم من أهل النفاق فيه والشكّ والارتياب. كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وإنما قال تعالى ذكره: "بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ" ولم يقل «بأشياء» لاختلاف أنواع ما أعلم عباده أنه ممتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفا وكانت «مِن» تدلّ على أن كل نوع منها مضمر (في) شيء وأن معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع وبشيء من نقص الأموال. اكتفى بدلالة ذكر الشيء في أوله من إعادته مع كل نوع منها. ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم وامتحنهم بضروب المحن...عن الربيع قال: قد كان ذلك، وسيكون ما هو أشدّ من ذلك.

"وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ". ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه، والاَخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي مع ابتلائي إياهم بما ابتليتهم به القائلين إذا أصابتهم مصيبة: "إنا لله وإنا إليه راجعون". فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد أهل الصبر الذين وصف الله صفتهم. وأصل التبشير: إخبار الرجل الرجل الخبر يسرّه أو يسوءه لم يسبقه به إليه غيره.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

جائزٌ والله أعلم أن يكون قدّم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد لمعنيين، أحدهما: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت؛ فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود. والثاني: ما يتعجلون به من ثواب توطين النفس.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الخطاب بهذه الآية متوجه إلى أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله). ولو قيل: إنه خطاب لجميع الخلق، لكان أيضا صحيحا، لأن ذلك جاز في جميعهم. والابتلاء، والاختبار، والامتحان، بمعنى واحد، والابتلاء بهذه الأمور المذكورة في الآية بأمور مختلفة؛ فالخوف: هو انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر، وكان ذلك لقصد المشركين لهم بالعداوة. والجوع: كان لفقرهم وتشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش. ونقص الاموال: للانقطاع بالجهاد عن العمارة. والأنفس: بالقتل في الحرب مع رسول (صلى الله عليه وآله)...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ابتلاهم بالنعمة لِيُظْهِرَ شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم في الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قَسَمَه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، (ابتلاهم) بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال تزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يعني الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن القفال رحمه الله قال: هذا متعلق بقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا...

فإن قيل إنه تعالى قال: {واشكروا لي ولا تكفرون} والشكر يوجب المزيد على ما قال: {لئن شكرتم لأزيدنكم} فكيف أردفه بقوله: {ولنبلونكم بشيء من الخوف}

(والجواب) من وجهين:

(الأول): أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة، فكان ذلك موجبا للشكر، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن، فلا جرم أمر فيها بالصبر.

(الثاني): أنه تعالى أنعم أولا فأمر بالشكر، ثم ابتلى وأمر بالصبر، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معا، فيكمل إيمانه...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع}. هذا ترق لأن الجوع أشد من الخوف. فإن قلت: إنه أيضا أشد من النقص من الأموال. قلت: الجواب أن النقص من الأموال أكثر وجودا في النّاس من الجوع فهو أشد مفسدة والنقص من الأنفس بالمرض أو بالموت أشد من الجميع...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من شأن الطين الذي منه البشر وما تولد منه أنه لا يخلص عن الشوائب إلا بعد معاناة شديدة، ألا ترى أن الذهب أصفاه وهو لا يخلو عن الغش ولا يعرى عما خالطه من الدنس إلا بالامتحان بشديد النيران! قال تعالى معلماً لهم بالتربية بما تحصل به التصفية بما تؤدي إليه مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار: {ولنبلونكم} عطفاً على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: فلنأمركم بمقارعة كل من أمرناكم من قبل بمجاملته وليتمالأن عليكم أهل الأرض ولنبلونكم أي يصيبكم بأشياء إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ليظهر الصابر من الجزع. قال الحرالي: فالصبر الأول أي في {أن الله مع الصابرين} عن الكسل وعلى العمل، والصبر الثاني أي في {وبشر الصابرين} على مصائب الدنيا، فلذلك انتظم بهذه الآيات آية {ولنبلونكم} عطفاً وتجاوزاً لأمور يؤخذ بها من لم يجاهد في سبيل الله ضعفاً عن صبر النفس عن كره القتال.

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] فمن لم يحمل الصبر الأول على الجهاد أخذ بأمور هي بلايا في باطنه تجاوزها الخطاب فانعطف عليها {ولنبلونكم بشيء من الخوف} وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها {والجوع} وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على النفس حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة فهو الغرث، فلذلك في الجوع بلاء مّا والغرث عادة جارية. وقال أيضاً: الجوع فراغ الجسم عما به قوامه كفراغ النفس عن الأمنة التي لها قوام مّا، فأفقدها القوامين في ذات نفسها بالخوف وفي بدنها بالجوع لما لم تصبر على كره الجهاد، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه أهون من الصبر على الخوف والجوع، وإنما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء الخوف حيث خافوا الأعداء على أنفسهم فجاءهم إلى مواطنهم، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح جاء الطبيب لهلاكه، وشتان بين خوف الغازي للعدو في عقره وبين خوف المحصر في أهله، وكذلك شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده وخير الزاد التقوى في سبيله لجهاده وبين جوع المتخلف في عيلته -انتهى. ونكر الشيء وما بعده حثاً على الشكر بالإشارة إلى أن كل ما أصاب منها ففي قدرة الله ما هو أعظم منه، فعدم الإصابة به نعمة.

ولما كان الجوع قد يكون عن رياضة بين أنه عن حاجة بقوله: {ونقص} وهو التقاصر عن الكفاف {من الأموال} أي النعم التي كانت منها أغذيتهم. قال الحرالي: لأن ذلك عرف استعمالهم في لفظ المال. وقال أيضاً: والمال ما هو للمتمول بمنزلة الجزء منه عنده لماله لذلك منه، فضاعف تعالى مثال البلاء في ذوات أنفسهم وأبدانهم ليقطع عنهم راحة تطلع الكفاية من الأموال في مقابلة ما ينال المجاهد من الغناء والرزق، فالمجاهد آمن في جيشه متزود في رحله غانم من عدوه، والمتخلف خائف في أهله جائع في عيلته ناقص المال من ذات يده- انتهى.

ولما كان ذلك قد يكون عن إفراط في الكثرة قال: {والأنفس} قال الحرالي: فيه إشعار بأن من جاهد كثر عدده ونما ولده، وأن من تكاسل قل عدده ودرج خلفه، وفي ضمنه إشعار بمنال المتكاسل حواصد من جوارف الآجال من الوباء والطاعون وغيره -انتهى. وقال: {والثمرات} التي هي أنفس الأشجار التي بها قوام أنفس الأبدان تخصيصاً لها بالذكر، لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم من أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات وهو أول زمان الهجرة.

ولما كان السياق مرشداً إلى أن التقدير: فأنذر من لم يصبر، ولكنه طوى إشارة إلى إجلال الذين آمنوا عن أن يكون فيهم من لم يصبر عطف عليه إرشاداً إليه وحثاً على الصبر ثم الذكر الموجبين للنصر قوله: {وبشر الصابرين} وقال الحرالي: ولما كان هذا البلاء عن تكاسل من الصبر الأول كما قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11] وكان مما يتداركه صبر عليه تدارك تعالى هذه الرتبة ببشرى الصابرين من هلكه ما ينال من لم يصبر على هذه المصيبة وضجر منها وتسخط فيها، فكان للصابر الأول الصحبة بقوله: {إن الله مع الصابرين}.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ذكر الله تعالى فضل الشهادة التي استهدف لها المؤمنين في سبيل الدعوة إلى الحق والدفاع عنه، ثم ذكر مجموع المصائب التي يبلوهم ويمنحهم بها وهي لا تنافي ما وعدهم به من نعم الدنيا فقال {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} أي ولنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وغيره من المصائب البشرية المعتادة في المعايش، وأكد هذا بصيغة القسم لتوطين الأنفس عليه فعلمهم به أن مجرد الانتساب إلى الإيمان، لا يقتضي سعة الرزق وقوة السلطان، وانتفاء المخاوف والأحزان، بل يجري ذلك بسنن الله تعالى في الخلق كما أن من سنن الخلق وقوع المصائب بأسبابها. وإنما المؤمن الموفق من يستفيد من مجاري الأقدار، إذ يتربى ويتأدب بمقاومة الشدائد والأخطار، ومن لم تعلمه الحوادث، وتهذبه الكوارث، فهو جاهل بهدي الدين، متبع غير سبيل المؤمنين، غير معتبر بقوله تعالى بعد ذكر هذا البلاء المبين {وبشر الصابرين} فإنه تعالى أراد أن ينبهنا بهذا إلى أن هذه العقيدة هي التي تكتسب بها ملكة الصبر التي يقرن بها الظفر ويكون صاحبها أهلا لأن يبشر باحتمال البلاء والاستفادة بحسن العقبة في الأمور كلها.

فالبشارة في الآية عامة ولم يذكر المبشر به إيذانا بذلك وهو إيجار لا يعهد مثله في غير القرآن الحكيم، فأنت ترى أنه لو أريد ذكر ما يبشرون به لخرج الكلام إلى تطويل لا حاجة إليه كبيان عاقبة من يقع في كل نوع من أنواع المخاوف فيصابرها وينجح في أعقابها وهي كثيرة، وهكذا الخوف المشار إليه في الآية وأعداء الإسلام على ما كانوا عليه من الكثرة والقوة ظاهر لا يخفى، على أن بعضهم فسره بالخوف من الله تعالى وهو باطل لأن هذا من أعظم ثمرات الإيمان، لا من مصائب الامتحان، فهو نعمة تعين على الصبر لا مصيبة يطلب الصبر عليها أو فيها لأجل تهوين خطبها. وأما الجوع فقد قالوا إنه ما يكون من الجدب والقحط.

قال الأستاذ الإمام: وليس هذا هو المراد في الآية المسوقة لبيان ما يلاقي المؤمنون في سبيل الإيمان ولا وقع للصحابة في ذلك العهد وإنما هو أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج في الغالب صفر اليدين، ولذلك كان الفقر عاما في المسلمين من أول عهدهم إلى ما بعد فتح مكة، ومن هذا التفسير يفهم المراد من نقص الأموال وهي الأنعام التي كانت معظم ما يتموله العرب. وأما الثمرات فهي على أصلها، وكان معظمها ثمرات النخل. وقيل هي الولد ثمر القلب كما يقولون في المجاز المشهور. وقد بلغ من الجوع المسلمين أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرة ولاسيما في غزوتي الأحزاب وتبوك. وأما نقص الأنفس فهو ما كان من القتل والموتان من اجتواء المدينة، فقد كانت عند هجرتهم إليها بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} من الأعداء {وَالْجُوعِ} أي: بشيء يسير منهما، لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك... {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى.

فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا.. ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى.

فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب...