ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة . فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) . . فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة ، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة . فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم ! - فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة .
ولكن الاختلاف في العقيدة ، والأمر بعدم الطاعة في خلافها ، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة : ( وصاحبهما في الدنيا معروفا )فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة : ( واتبع سبيل من أناب إلي )من المؤمنين ( ثم إلي مرجعكم )بعد رحلة الأرض المحدودة ( فأنبئكم بما كنتم تعملون )ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران ، ومن شرك أو توحيد .
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه [ كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت ] . وروي أنها نزلت في سعد بن مالك . ورواه الطبراني في كتاب العشرة - بإسناده - عن داود بن أبي هند . والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص . وهو الأرجح . أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة ، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف . فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى ، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول . والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض .
{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم } باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما ، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه . { فلا تطعهما } في ذلك . { وصاحبهما في الدنيا معروفا } صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم . { واتبع } في الدين { سبيل من أناب إلي } بالتوحيد والإخلاص في الطاعة . { ثم إلي مرجعكم } مرجعك ومرجعهما . { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما . نزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته .
وقوله تعالى : { وإن جاهداك } الآية روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أن أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية لما أسلم حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دنيه ويرجع إلى دين قومه فلج سعد في الإسلام ، وكانت هي إذا أفرط عليه الجوع والعطش شحوا فاها ، ويروى شجروا فاها ، أي فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها ، فلما طال ذلك ورأت أن سعداً لا يرجع أكلت ، ففي هذه القصة نزلت الآيات ، قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين{[9364]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : فمطلب الآية الأولى الأمر ببر الوالدين وتعظيمه ، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي ، وجملة هذا الباب أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب ، ومنه أمر جهاد الكفاية والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة ، على أن أقوى من الندب لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة ، فلا يكون أقوى من الندب ، وخالف الحسن في هذا الفصل فقال إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها ، وقوله { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } يعني الأبوين الكافرين أي صلهما بالمال وادعهما برفق ، ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها ، وقيل أمها من الرضاعة ، فقالت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال نعم . وراغبة قيل معناه عن الإسلام .
قال الفقيه الإمام القاضي : والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها ، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد عزى بن عبد أسعد{[9365]} وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام .
وقوله تعالى : { واتبع سبيل من أناب إليّ } ، وصية لجميع العالم كأن المأمور الإنسان ، و { أناب } معناه ، مال ورجع إلى الشيء ، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين ، وحكى النقاش أن المأمور سعد والذي أناب أبو بكر ، وقال : إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا آمنت ؟ قال نعم ، فنزلت فيه { أمن هو قانت آناء الليل }{[9366]} [ الزمر : 9 ] فلما سمعها الستة آمنوا فأنزل الله تعالى فيهم { والذين اجتنبوا الطاغوت } [ الزمر : 17 ] إلى قوله { أولئك الذي هداهم الله }{[9367]} [ الزمر : 18 ] . ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.