والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .
( فلما بلغ معه السعي . قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فانظر ماذا ترى . قال : يا أبت افعل ما تؤمر : ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه . فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم . وها هو ذا ما يكاد يأنس به ، وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ، ويرافقه في الحياة . . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . فماذا ? إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً ، ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . . هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . . لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ? !
ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب . . كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب :
( قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ) . .
فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، والواثق بأنه يؤدي واجبه . وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا . ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً ، لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .
فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه :
( قال : يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .
( يا أبت ) . . في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افعل ما تؤمر ) . . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :
( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة . ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . . إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به : ( ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .
يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف ، كان التقدير : فولد له غلام كما قلنا { فلما بلغ } أن يسعى كائناً { معه } أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له { السعي } الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به ، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي ، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب ، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته ، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم : ثلاث عشرة سنة ، وبعضهم : سبع سنين ، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه ، وهو لم يبلغ كمال السعي { قال } أي إبراهيم عليه السلام : { يا بني } منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب ، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له ، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي ، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض ، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته ، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام : { إني أرى في المنام } أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي { أني أذبحك } أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال ، ولو عبر بالماضي لمضى وتم ، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال .
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم ، أحب أن يرى ما عنده ، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه ، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده ، ولتكون المشاورة سنة ، فإنه " ما ندم من استشار " سبب عن ذلك قوله : { فانظر } بعين بصيرتك { ماذا } أي ما الذي { ترى } أي في هذه الرؤيا ، فهو اختبار لصبره ، لا مؤامرة له { قال } تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم : { يا أبت } تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوقير { افعل ما تؤمر } أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك ، ولا أتهم الله في قضائه ، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند{ ءأنذرتهم أم لم تنذرهم }[ البقرة : 6 ] .
ولما علم طاعته ، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره ، فاستأنف قوله : { ستجدني } أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه ، لا خلف فيه ، وكان صادق الوعد .
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال : { إن شاء الله } أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال ؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله : { من الصابرين } أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية ، وهو من أعظم ما أريد بقوله
{ وكان صادق الوعد }[ مريم : 54 ] .
ولو بيد الحبيب سقيت سماً *** لكان السم من يده يطيب
وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة ، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال ، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار ، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى .
قوله : { فلما بلغ معه السعي } أي العمل . وقيل : المشي ، والمراد : أنه بلغ مع أبيه المبلغ الذي يسعى معه في أمور دنياه معينا له على أعماله ، أو أنه كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه .
قوله : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } رأى إبراهيم في منامه أنه مأمور بذبح ولده إسماعيل ؛ وذلكم ضرب من ضروب الوحي فقد كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى إيقاظا ورقودا ؛ فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم وإن كانت تنام أعينهم . قال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ، واستدل بهذه الآية . وقد أعلم إبراهيم ابنه إسماعيل بذلك ؛ ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى . فبادر الولد الكريم المبرور ، للإجابة بالطاعة دون تردد أو تلعثم وهو قوله : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي امض لما أمرك الله من ذبحي { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله جل وعلا . كذلك كان جواب إسماعيل . هذا التقي الزكي المختار ، الذي فاق ببالغ عزمه وعظيم إرادته وروعة طبعه المفضال كل آفاق الذهن والخيال فكان مثالا لا يبلغه إلا الرفّافون الأبرار من النبيين الأخيار والصِّدِّيقين الأطهار وحَسْب . صلى الله على إسماعيل وأبيه وسائر النبيين والمرسلين صلاة وسلاما إلى يوم البعث والدين .