في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية :

( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .

إنه قلب واحد ، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه . ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه . ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم ، ويقوم به الأحداث والأشياء . وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى ، ولم يستقم على اتجاه .

ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع . . فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب . إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام !

وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا ، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها ، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا . لا يملك أن يقول كلمة ، أو يتحرك حركة ، أو ينوي نية . أو يتصور تصورا ، غير محكوم في هذا كله بعقيدته - إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه - لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد ، يخضع لناموس واحد ، ويستمد من تصور واحد ، ويزن بميزان واحد .

لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية . وفعلت كذا بصفتي الإسلامية ! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات . أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام ! إنه شخص واحد له قلب واحد ، تعمره عقيدة واحدة . وله تصور واحد للحياة ، وميزان واحد للقيم . وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه ، في كل حالة من حالاته على السواء .

وبهذا القلب الواحد يعيش فردا ، ويعيش في الأسرة ، ويعيش في الجماعة ، ويعيش في الدولة . ويعيش في العالم . ويعيش سرا وعلانية . ويعيش عاملا وصاحب عمل . ويعيش حاكما ومحكوما . ويعيش في السراء والضراء . . فلا تتبدل موازينه ، ولا تتبدل قيمه ، ولا تتبدل تصوراته . . ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .

ومن ثم فهو منهج واحد ، وطريق واحد ، ووحي واحد ، واتجاه واحد . وهو استسلام لله وحده . فالقلب الواحد لا يعبد إلهين ، ولا يخدم سيدين ، ولا ينهج نهجين ، ولا يتجه اتجاهين . وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام !

وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني . ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم :

( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم . وكان الله غفورا رحيما ) .

كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي . أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي . ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غيره ، ولا هي زوجة فتحل له . وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها ، وسومها كل مشقة وعنت .

فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الإجتماعية في محيط الأسرة ؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال . . جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف ؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر . وكان مما شرعه هذه القاعدة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة ، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة ! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية .

وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من " سورة المجادلة " عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة ، فجاءت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تشكو تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني . حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " ما أراك إلا قد حرمت عليه " . فأعادت ذلك مرارا . فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير . الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا . وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة - من قبل أن يتماسا - ذلكم توعظون به . والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ؛ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله . وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم . . فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء - لا مؤبدا ولا طلاقا - كفارته عتق رقبة ، أو( صيام شهرين متتابعين أو( إطعام ستين مسكينا ) . وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى ، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها . ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية ، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت ، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها ، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي .

هذه مسألة الظهار .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

ولما كان النازع إلى جهتين{[55014]} والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين ، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هماً واحداً فيما يكون من أمور الدين والدنيا ، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابههما بضرب المثل بالقلبين - كما قال الزهري ، فقال معللاً لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه : { ما جعل الله } أي الذي له الحكمة البالغة ، والعظمة الباهرة ، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره { لرجل } أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره ، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب الأولى ؛ وأشار إلى التأكيد بقوله : { من قلبين } وأكد الحقيقة وقررها ، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق ، بقوله : { في جوفه } أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مودِّ إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى ، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء ؛ قال الرازي في اللوامع : القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس ، ومهما حوذى به جانب الحس أعرض عن جانب القدس ، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه - انتهى . وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع{[55015]} والشرك لا خير فيه ، وأن مدبر الملك{[55016]} واحد كما أن مدبر البدن قلب واحد ، فلا التفاف إلى غيره ، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين ، وإنما هو بجعله{[55017]} سبحانه ، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه .

ولما كان كل من المظاهرة والتبني نازعاً إلى جهتين متنافيتين ، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقاً مؤبداً لا رجعة فيه - كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي ، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب ، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب في " يعملون " لأبي عمرو{[55018]} فقال : { وما جعل أزواجكم } أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن{[55019]} من جهة الزوجية ؛ ثم أشار إلى الجهة الأخرى بقوله : { اللائي تظاهرون منهن } أي كما{[55020]} يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي { أمهاتكم } بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد{[55021]} وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها ، لأنه لا يكون لرجل أمان ، ولو جعل ذلك لضاق الأمر ، واتسع الخرق ، وامتنع الرتق{[55022]} { وما جعل أدعياءكم } بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم { أبناءكم } بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم{[55023]} إرثكم{[55024]} ، وتحرم عليكم حلائلهم{[55025]} وغير ذلك من أحكام الأبناء ، ولا يكون لابن أبوان ، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب ، وعم الارتياب ، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب ، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب ، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبنيته{[55026]} ابناً لك أيها النبي بتبنيك{[55027]} له جزاء له{[55028]} باختياره لك على أبيه وأهله ، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم{[55029]} لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي{[55030]} وغيره : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، وبين أن التبني إنما هو مجاز ، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي و{[55031]} ما ألحق به من الرضاع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان{[55032]} تبنى {[55033]}زيداً لقصة{[55034]} مذكروة في السيرة{[55035]} ، روى البخاري{[55036]} عن ابن عمر رضي الله عنهما أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم } .

ولما أبطل هذا{[55037]} سبحانه ، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال{[55038]} : { ذلكم } أي القول البعيد عن الحقيقة ، وأكد هذا بقوله : { قولكم بأفواهكم } أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم من غير مطابقة قلوبكم{[55039]} ، فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده ، لأن من كان له فم كان محتاجاً ، ومن كان محتاجاً كان معرضاً للنقائص كان معرضاً للأوهام ، ومن غلبت ، عليه الأوهام كان في كلامه الباطل{[55040]} { والله } أي المحيط علمه وقدرته وله جميع صفات الكمال{[55041]} { يقول الحق } أي{[55042]} الكامل في حقيته{[55043]} ، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه ، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال ، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة ، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق{[55044]} ، فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون ، فإذا قال قولاً وجد مضمونه مطابقاً لذلك القول ، فإذا طبقت بينهما كانا سواء ، فكان ذلك المضمون ثابتاً كما كان ذلك الواقع ثابتاً ، فكان حقاً ، هكذا أقواله على الدوام ، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفم أولاً دليلاً على نفيه ثانياً والحق ثانياً دليلاً على ضده الباطل أولاً ، وسرّ ذلك أنه ذكر ما يدل على النقص في حقنا ، وعلى الكمال في حقه ، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء{[55045]} { وهو } أي وحده من حيث قوله الحق { يهدي السبيل * } أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول ، فلا تعولوا على سواه ولا تلتفتوا أصلاً إلى غيره .


[55014]:زيد من ظ وم ومد.
[55015]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التوزيع.
[55016]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الكل.
[55017]:في ظ وم ومد: بما يجعله هو.
[55018]:زيد من ظ ومد.
[55019]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عين ـ كذا.
[55020]:زيد من ظ وم ومد.
[55021]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الترتيب.
[55022]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أطرق.
[55023]:في مد: لكم.
[55024]:في الأصل بياض، ملأناه من ظ وم ومد.
[55025]:زيد في الأصل وم: وتحليهم حلايلكم، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[55026]:زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ وم ومد فحذفناها.
[55027]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: وتبنيتك.
[55028]:زيد من ظ وم ومد.
[55029]:زيد من ظ وم ومد.
[55030]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 5/191.
[55031]:زيد من ظ وم ومد.
[55032]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كما.
[55033]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: زيد والقصة.
[55034]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: زيد لقصة.
[55035]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: السير.
[55036]:راجع صحيحه 2/705.
[55037]:زيد من ظ وم ومد.
[55038]:سقط من ظ.
[55039]:زيد من ظ ومد.
[55040]:زيد من ظ ومد.
[55041]:زيد من ظ ومد.
[55042]:سقط من ظ.
[55043]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الحقيقة.
[55044]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فرقا.
[55045]:زيد من ظ ومد.