وهم يعرضون على النار( خاشعين )لا من التقوى ولا من الحياء ، ولكن من الذل والهوان ! وهم يعرضون منكسي الأبصار ، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار : ( ينظرون من طرف خفي ) . . وهي صورة شاخصة ذليلة .
وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف ؛ فهم ينطقون ويقررون : ( وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) . . وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء ، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون : هل إلى مرد من سبيل ?
ويجيء التعليق العام على المشهد بياناً لمآل هؤلاء المعروضين على النار :
( ألا إن الظالمين في عذاب مقيم . وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله . ومن يضلل الله فما له من سبيل ) . .
{ وتراهم يعرضون عليها } : أي على النار خاشعين خائفين متواضعين .
{ ينظرون من طرف خفي } : أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول إلى السيف لا يملأ عينه منه
{ يوم القيامة } : أي لخلودهم في النار ، وعدم وصولهم إلى الحور العين في دار السلام .
{ ألا إن الظالمين } : أي المشركين .
{ في عذاب مقيم } : أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم .
قال تعالى { وتراهم يعرضون عليها } أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذّل ينظرون من طرف خفي يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر إلى النار لشدة خوفهم منها .
وهنا يقول الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك لخلودهم في النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين في الجنة دار الأبرار ، ويعلن معلن فيقول : ألا إن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي في عذاب مقيم لا يبرح ولا يزول .
- لا أعظم خسراناً ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتراهم يعرضون عليها}، يعني على النار واقفين عليها.
{خاشعين}، يعني خاضعين، {من الذل} الذي نزل بهم.
{ينظرون من طرف خفي}، يعني يستخفون بالنظر إليها يسارقون النظر.
{وقال الذين آمنوا}... {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم}، يعني غبنوا أنفسهم، فصاروا إلى النار.
{و} خسروا {وأهليهم يوم القيامة}: وغبنوا أهليهم في الجنة، فصاروا لغيرهم، ولو دخلوا الجنة أصابوا الأهل، فلما دخلوا النار حرموا، فصار ما في الجنة والأهلين لغيرهم.
{ألا إن الظالمين}، يعني المشركين، {في عذاب مقيم}، يعني دائم لا يزول عنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الظالمين يعرضون على النار "خاشِعِينَ مِنَ الذّلّ "يقول: خاضعين متذللين...
وقوله: "يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ" يقول: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرف خفيّ.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "مِنْ طَرْفٍ خَفِيَ"؛
فقال بعضهم: معناه: من طرف ذليل. وكأن معنى الكلام: من طرف قد خَفِي من ذلّة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يسارقون النظر...
وقال آخرون منهم: إنما قيل: "مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ" لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم يُحشرُون عُميا.
والصواب من القول في ذلك... أن معناه: أنهم ينظرون إلى النار من طرف ذليل، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب.
وقوله: "وَقالَ الّذِينَ آمَنُوا إنّ الخاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ" يقول تعالى ذكره: وقال الذين آمنوا بالله ورسوله: إن المغبونين الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في الجنة...
وقوله: "ألا إنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ" يقول تعالى ذكره: ألا إن الكافرين يوم القيامة في عذاب لهم من الله مُقيم عليهم، ثابت لا يزول عنهم، ولا يَبيد، ولا يخفّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون قوله: {ينظرون من طرف خفيّ} أي لا ينظرون إلى الناس، ولا يُقبلون بوجوههم إليهم إلا نظر التلصُّص والتغفّل حياء منهم لسوء فِعالهم. وهكذا المعروف في الناس، لأن من صنع إلى آخر سوءا لا يتهيأ له رفع الطرف إليه متّصلا إلا على التلصّص منه والتغفّل. فعلى ذلك أولئك، والله أعلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله: {عليها} عائد على النار، وعاد الضمير مع أنها لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله: {رأوا العذاب}...
{من طرف خفي} قال قوم فيما حكى الطبري: لما كانوا يحشرون عمياً وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفاً خفياً، أي لا يبدو نظرهم، وفي هذا التأويل تكلف...
{ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} أي دائم قال القاضي، وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أي:الخسار الأكبر {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم، {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يعرضون} أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم.
{عليها} أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم {خاشعين} أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم.
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال: {من الذل}؛ لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه...
{إن الخاسرين} أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة.
{الذين خسروا أنفسهم} بما استغرقها من العذاب {وأهليهم} بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان.
{ألا إن الظالمين} أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها.
{في عذاب مقيم} لا يزايلهم أصلاً، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الظاهر: أن المؤمنين يقولون هذا بمسمع من الظالمين فيزيد الظالمين تلهيباً لندامتهم ومهانتهم وخزيهم. فهذا الخبر مستعمل في إظهار المسرّة والبهجة بالسلامة مما لحق الظالمين، أي قالوه تحدثاً بالنعمة واغتباطاً بالسلامة يقوله كل أحد منهم أو يقوله بعضهم لبعض. وإنما جيء بحرف {إنَّ} مع أن القائل لا يشك في ذلك والسامع لا يشك فيه للاهتمام بهذا الكلام إذ قد تبيّنت سعادتهم في الآخرة وتوفيقهم في الدنيا بمشاهدة ضد ذلك في معانديهم.
والخسران: تلف مال التاجر، واستعير هنا لانتفاء الانتفاع بما كان صاحبه يُعِده للنفع، فإنهم كانوا يأمُلون نعيم أنفسهم والأنس بأهليهم حيثما اجتمعوا، فكُشف لهم في هذا الجمع عن انتفاء الأمرين؛ أو لأنهم كانوا يحسبون أن لا يحيوا بعد الموت فحسِبوا أنهم لا يَلْقَوْن بعده ألماً ولا توحشهم فرقة أهليهم؛ فكُشف لهم ما خيَّب ظنهم فكانوا كالتاجر الذي أمّل الربح فأصابه الخسران.
ولما أثبت رؤيتهم العذاب ، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال : { وتراهم } أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم { يعرضون } أي يجدد عرضهم ويكرر ، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم { عليها } أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم { خاشعين } أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم .
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال : { من الذل } لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه .
ولما كان الذل ألواناً ، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر : { ينظرون } أي يبتدئ نظرهم المتكرر { من طرف } أي تحريك للأجفان { خفي } يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطرف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره ، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه ، بل ربما تخيله بأعظم مما هو عليه . ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو ، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران : { وقال } أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع { الذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال ، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح حالهم ، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم ، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا هذه المواعظ : { إن الخاسرين } أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة { الذين خسروا أنفسهم } بما استغرقها من العذاب { وأهليهم } بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان .
ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها ، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به ، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال : { يوم القيامة } أي الذي هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء . ولما كان هذا نهاية الخسارة ، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك ، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار به في هذه الدار من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين : { ألا إن الظالمين } أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها { في عذاب مقيم * } لا يزايلهم أصلاً ، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات ، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء .