( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك ، تحت النزوات والاندفاعات . تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق ، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة ، قبل التثبت والاستيقان .
وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات ، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة ، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق . ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح . والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح .
والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين . ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما ، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى ، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب .
وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين . فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن ، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله . وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين ، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه ، وأدى إلى الخصام والقتال . فإذا تم قبول البغاة لحكم الله ، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه . . ( إن الله يحب المقسطين ) . .
{ وإن طائفتان من المؤمنين } : أي جماعتان قلَّ أفرادهما أو كثروا من المسلمين .
{ اقتتلوا فأصلحوا بينهما } : أي هموا بالاقتتال أو باشروه فعلا فأصلحوا ما فسد بينهما .
{ فإن بغت إحداهما على الأخرى } : أي تعدت بعد المصالحة بأن رفضت ذلك ولم ترض بحكم الله .
{ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } : أي قاتلوا أيها المؤمنون مجتمعين الطائفة التي بغت حتى ترجع إلى الحق .
{ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } : أي رجعت إلى الحق بعد مقاتلتها فأصلحوا بينهما بالعدل أي بالحق .
{ وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } : أي واعدلوا في حكمكم إن الله يحب أهل العدل .
قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآيات ما زال الكريم في طلب تأديب المسلمين وتربيتهم وإعدادهم للكمال الدنيوي والأخروي ففي الآيتين ( 9 ) و ( 10 ) من هذا السياق يرشد الله تعالى المسلمين إلى كيفية علاج مشكلة النزاع المسلح بين المسلمين الذي قد يحدث في المجتمع الإِسلامي بحكم الضعف الإِنساني من الوقت إلى الوقت وهو مما يكاد يكون من ضروريات الحياة البشرية وعوامله كثيرة لا حاجة إلى ذكرها فقال تعالى { وإن طائفتان } أي جماعتان { من المؤمنين اقتتلوا } ولو كان ذلك بين اثنين فقط { فأصلحوا } أيها المسلمون { بينهما } بالقضاء على أسباب الخلاف وترضيه الطرفين بما هو حق وخير وليس هذا بصعب مع وجود قلوب مؤمنة وهداية ربانية وقوله { فإِن بغت إحداهما } أي اعتدت إحدى الطائفتين بعد الصلح { على الأخرى } بأن رفضت حكم الله الذي قامت المصالحة بموجبه { فقاتلوا } مجتمعين { التي تبغي } أي تعتدي { حتى تفيء إلى أمر الله } أي إلى الحق { فإِن فاءت } أي أذعنت للحق ورضيت به { فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا } في حكمكم دائما وأبدا { إن الله يحب المقسطين } .
- وجوب مبادرة المسلمين إلى إصلاح ذات البين بينهم كلما حصل فساد أو خلل فيها .
- وجوب تعاون المسلمين على تأديب أية جماعة تبغي وتعتدي حتى تفيىء إلى الحق .
{ 9-10 } { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
هذا متضمن لنهي المؤمنين ، [ عن ] أن يبغي بعضهم على بعض ، ويقاتل{[798]} بعضهم بعضًا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين ، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير ، بالإصلاح بينهم ، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك ، فإن صلحتا ، فبها ونعمت ، وإن { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : ترجع إلى ما حد الله ورسوله ، من فعل الخير وترك الشر ، الذي من أعظمه ، الاقتتال ، [ وقوله ] { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } هذا أمر بالصلح ، وبالعدل في الصلح ، فإن الصلح ، قد يوجد ، ولكن لا يكون بالعدل ، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين ، فهذا ليس هو الصلح المأمور به ، فيجب أن لا يراعى أحدهما ، لقرابة ، أو وطن ، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض ، التي توجب العدول عن العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات ، التي تولوها ، حتى إنه ، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله ، وعياله ، في أدائه حقوقهم ، وفي الحديث الصحيح : " المقسطون عند الله ، على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ، وما ولوا "
ولما كانت النميمة ونقل الأخبار الباطلة الذميمة ربما جرت فتناً وأوصلت إلى القتال ، وكان {[60803]}العليم الحكيم{[60804]} لا ينصب سبباً إلا ذكر مسببه وأشار إلى دوائه{[60805]} ، وكان لا ينهى عن الشيء إلا من كان متهيئاً له لما في جبلته من الداعي إليه ، فكان قد يواقعه ولو في وقت ، قال تعالى معلماً لنا طريق الحكمة{[60806]} في دفع ما جرت إليه{[60807]} الأخبار الباطلة من القتال ، معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن ما-{[60808]} في حيزها لا ينبغي أن يقع بينهم ، ولا أن يذكروه إلا على سبيل الفرض : { وإن طائفتان } أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما-{[60809]} دهمها{[60810]} من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به ، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها { من المؤمنين } أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق{[60811]} عليه به الاسم فقط .
ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر ، عبر بضمير الجمع دون {[60812]}التثنية تصويراً{[60813]} لذلك بأقبح صورة فقال : { اقتتلوا } أي-{[60814]} فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة { فأصلحوا } أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح . ولما كانت{[60815]} العبرة في الصلح إذا وقع بين الطائفتين ما يسكن به الشر وإن تخلف شذان من الجانبين لا يعبأ بهم ، عبر بالتثنية دون الجمع فقال : { بينهما } أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي ، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتتجاوزوا فيه أمر الله .
ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لا يلم به أحد ، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال : { فإن بغت } أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير { إحداهما } أي الطائفتين { على الأخرى } فلم ترجع إلى حكم الله الذي{[60816]} خرجت عنه ولم تقبل الحق . ولما كان الإضمار هنا ربما أوهم لبساً فتمسك به متعنت في أمر فساد ، أزال بالإظهار كل لبس فقال : { فقاتلوا } أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة { التي } .
ولما كان القتال لا يجوز إلا بالاستمرار على البغي ، عبر بالمضارع إفهاماً لأنه متى زال البغي ولو بالتوبة{[60817]} من غير شوكة حرم القتال فقال : { تبغي } أي توقع الإرادة وتصر عليها ، وأديموا القتال لها { حتى تفيء } أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة الذي كأنه حر الشمس حين نسخه الظل إلى ما كانت فيه{[60818]} من البر والخير الذي هو كالظل الذي ينسخ الشمس ، وهو معنى قوله تعالى : { إلى أمر الله } أي التزام{[60819]} ما أمر{[60820]} به الملك الذي لا يهمل الظالم ، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما {[60821]}كانت عليه{[60822]} من العدل قبل البغي . ولما كانت مقاتلة الباغي جديرة بترجيعه ، أشار إلى ذلك بقوله : { فإن فاءت } أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل { فأصلحوا } أي أوقعوا الإصلاح { بينهما } .
ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين ، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض ، قال : { بالعدل } ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا . ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى : { وأقسطوا } أي وأزيلوا القسط - بالفتح وهو الجور - بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه ، في ذلك وفي جميع أموركم ، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به{[60823]} ، وردّاً على من لعله يقول : إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف : { إن الله } أي الذي بيده النصر والخذلان { يحب المقسطين * } أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب .