( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل لله ، كتب على نفسه الرحمة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم ) . .
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير ، ثم المفاصلة . . ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول [ ص ] لهذه المواجهة . مواجهة المشركين - الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق ؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم - مواجهتهم بالسؤال عن الملكية - بعد الخلق - لكل ما في السماوات والأرض ، مسقصيا بهذا السؤال حدود الملكية في المكان :
( ما في السماوات والأرض ) . . مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها ؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها :
( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله ) . .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة - أرقى - في هذا الجانب - من الجاهلية " العلمية " الحديثة ، التي لا تعرف هذه الحقيقة ، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة ! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض . ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية ؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك ، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه . . وبهذا اعتبروا مشركين ، وسميت حياتهم بالجاهلية ! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه ؛ ويزاولونها هم بأنفسهم ؟ ! بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم ؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك . . فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه . . أيا كانت دعواهم في الإسلام وأيا كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد !
ونعود إلى الآية . لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض ، أنه - سبحانه :
فهو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه - فضلا منه ومنة - كتب على نفسه الرحمة . كتبها بإرادته ومشيئته ؛ لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح ؛ ولا يقتضيها منه مقتض - إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة - وهي - الرحمة - قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة . . والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي ، فرحمة الله بعباده هي الأصل ، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء . فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته ، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . . والرحمة في هذا كله ظاهرة . .
على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال . فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة . . إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار !
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها - وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي - ولكننا سنحاول أن نقف قليلا أمام هذا النص القرآني العجيب :
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) .
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه . . تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده . . تفضله - سبحانه - بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة . . مكتوبة عليه . . كتبها هو على نفسه ؛ وجعلها عهدا منه لعباده . . بمحض إرادته ومطلق مشيئته . . وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة . .
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه - سبحانه - على نفسه من رحمته . فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر ، لا يقل عن ذلك التفضل الأول ! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى ؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله ؟ من هم ؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم ؟ !
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش ؛ كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه !
ومثل هذه الحقائق ، وما تثيره في القلب من مشاعر ؛ ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئا في تصويره ؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه ، لا لتعريفه !
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكون جانبا أساسيا من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها . . وهو تصور جميل مطمئن ودود لطيف . يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب ، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله ! - على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة - فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه . والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه ، كما يروعه بجلال إيقاعة . .
ورحمة الله تفيض على عباده جميعا ؛ وتسعهم جميعا ؛ وبها يقوم وجودهم ، وتقوم حياتهم . وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات . فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته . في نشأتهم من حيث لا يعلمون . وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقاته . وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل . الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته .
وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته . . هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه ! وهومن رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض ، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى . كلما نسي وضل ؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ؛ ولم يسمع صوت النذير ، ولم يصغ للتحذير . وهو على الله هين . ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .
وتتجلى في تجاوز الله - سبحانه - عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب ، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب .
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها . والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء . ومحو السيئة بالحسنة . . وكله من فضل الله . فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته . حتى رسول الله [ ص ] كما قال عن نفسه ، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله .
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها ، وإعلان القصور والعي عنها ، هو أجدر وأولى . وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا ! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن ؛ فيتصل به ؛ ويعرفه ؛ ويطمئن إليه - سبحانه - ويأمن في كنفه ؛ ويستروح في ظله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها ، فضلا على وصفها والتعبير عنها .
فلننظر كيف مثل رسول الله [ ص ] لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما :
" أخرج الشيخان - بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] لما قضى الله الخلق - وعند مسلم : لما خلق الله الخلق - كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . . وعند البخاري في رواية أخرى : إن رحمتي غلبت غضبي " . .
وأخرج الشيخان - بإسناده عنه رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " جعل الله الرحمة مائة جزء . فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا . فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق . حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " . .
وأخرج مسلم - بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن لله مائة رحمة . فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة " . .
وله في أخرى : " إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض . فجعل منها في الأرض رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض . فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة " . .
وهذا التمثيل النبوي الموحي ، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى . . ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها ، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة ، والضعف والمرض ؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب ؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض - ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب - ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه . فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما !
وكان رسول الله [ ص ] لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى :
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قدم على رسول الله [ ص ] بسبي . فإذاامرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها ، إذ وجدت صبيا في السبي ، فأخذته ، فألزقته ببطنها فأرضعته . فقال [ ص ] : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه . قال : " فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها " . . [ أخرجه الشيخان ] .
وكيف لا . وهذه المرأة إنما ترحم ولدها ، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة ؟
ومن تعليم رسول الله [ ص ] لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية ، بهذا الأسلوب الموحي ، كان ينتقل بهم خطوة أخرى ؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته ، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعا ؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها ، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل .
عن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ ص ] " الراحمون يرحمهم الله تعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " . . [ أخرجه أبو داود والترمذي ] .
وعن جرير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يرحم الله من لا يرحم الناس " . . . [ أخرجه الشيخان والترمذي ] .
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - : قال [ ص ] : " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " .
وعن أبى هريرة كذلك . قال : قبل رسول الله [ ص ] الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرع بن حابس . فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا ! فنظر إليه رسول الله [ ص ] ثم قال : " من لا يرحم لا يرحم " . . [ أخرجه الشيخان ] .
ولم يكن [ ص ] يقف في تعليمه لأصحابه - رضوان الله عليهم - عند حد الرحمة بالناس . وقد علم أن رحمه ربه وسعت كل شيء . وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله ؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقا بخلق الله سبحانه . وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها :
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا ، فنزل فيها فشرب ، ثم خرج ، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر ، فملأ خفه ماء ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب . فشكر الله تعالى له فغفر له " . قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ قال : " في كل كبد رطبة أجر " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
وفي أخرى : إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر ، قد أدلع [ أي أخرج ] لسانه من العطش فنزعت له موقها [ أي خفها ] فغفر لها به .
وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر . فرأينا حمرة [ طائر ] معها فرخان لها فأخذناهما . فجاءت الحمرة تعرش [ أو تفرش ] - [ أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض ] فلما جاء رسول الله [ ص ] قال : " من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها " . ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال : " من أحرق هذه ؟ قلنا : نحن . قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار " . . [ أخرجه أبو داود ] . .
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " قرصت نملة نبيا من الأنبياءفأمر بقرية النمل فحرقت . فأوحي الله تعالى إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ؟ " . . . [ أخرجه الشيخان ] .
وهكذا علم رسول الله [ ص ] أصحابه هدى القرآن . ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة . . أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة ؟ !
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشى ء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثارا عميقة ؛ يصعب كذلك تقصيها ؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها ، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية ، إلى قضية مستقلة !
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه - حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء ، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار - فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة ، وكل حالة ، وكل وضع ؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه ، أو طرده من رحمته . فإن الله لا يطرد من رحمته أحدا يرجوها . إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها !
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر ، وبالرجاء والأمل ، وبالهدوء والراحة . . فهو في كنف ودود ، يستروح ظلاله ، ما دام لا يبعد عنه في الشرود !
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله . فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرى ء على المعصية - كما يتوهم البعض - إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم . والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية ! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم ، أو المغفرة ، أو الرحمة . . إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية !
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرا قويا في خلق المؤمن ، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله - سبحانه - وهو يرى نفسه مغمورا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه - فيعلمه ذلك كله كيف يرحم ، وكيف يعفو ، وكيف يغفر . . كما رأينا في تعليم الرسول [ ص ] لأصحابه ؛ مستمدا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة . .
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة : أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة :
( قل لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله . كتب على نفسه الرحمة . ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . . ) . .
فمن هذه الرحمة المكتوبة ، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه . . ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله - سبحانه - بعباده من الناس ؛ فقد خلقهم لأمر ؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية ، ولم يخلقهم عبثا ، ولم يتركهم سدى . ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة - فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته - فيعطيهم جزاء كدحهم إليه ، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا . فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر ؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة . . وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها . . كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها ، والحسنة بعشرة أمثالها ، والإضعاف لمن يشاء ، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء . . كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضا .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم - يكذبونبيوم القيامة - شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية " العلمية " الحديثة ! ! ! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات ، لمواجهة ذلك التكذيب :
( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) . .
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا . . وهؤلاء لن يخسروا شيئا ويكسبوا شيئا . . هؤلاء خسروا كل شيء . . فقد خسروا أنفسهم كلها ، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئا . أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه ؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب ؟ ولمن يكسب ؟ ! .
( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) . .
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها ؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن ! . . وهو تعبير دقيق عن حالة واقعة . . إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين - مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله - هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم ! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة ؛ أو محجوبة مغلفة . فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها ، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها ، ومن ثم فهم لا يؤمنون . . إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون . . وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم . . وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم . وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم !
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعْمَش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي{[10582]} صلى الله عليه وسلم " إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي " {[10583]}
وقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [ وهو يوم القيامة ]{[10584]} الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم{[10585]} في ريبهم{[10586]} يترددون .
وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني ، عن الزبير بن شَبِيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء ؟ قال : " والذي نَفْسِي بيَدِه ، إن فيه لماءً ، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء ، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار ، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء " .
هذا حديث غريب{[10587]} وفي الترمذي : " إن لكل نبي حَوْضًا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة{[10588]} {[10589]}
ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [ أي يوم القيامة ]{[10590]} { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .
جملة { قل لمن ما في السماوات والأرض } تكرير في مقام الاستدلال ، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهاماً تقريرياً ، والتقرير من مقتضيان التكرير ، لذلك لم تعطف الجملة . ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصوداً به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } في هذه السورة [ 40 ] . والاستفهام مستعمل مجازاً في التقرير . والتقرير هنا مراد به لازم معناه ، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشركَ ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح ، والمقصود هو المعنى الكنائي .
ولكونه مراداً به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محقّقاً لا محيص عنه ، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة ، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله : { لله } تبكيتاً لهم ، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية . وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد . فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة . وهذا أسلوب متّبع في القرآن ، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا ، وكما في قوله تعالى : { قل من ربّ السماوات والأرض قل الله } [ الرعد : 16 ] ، وقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى- إلى قوله- قل الله } [ الأنعام : 91 ] ، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوباً إليهم أنّهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتّب عليه من توبيخ ونحوه ، كقوله تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون } إلى قوله { قل فأنّى تسحرون } [ المؤمنون : 84 89 ] .
وابتدىء بإبطال أعظم ضلالهم . وهو ضلال الإشراك . وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشىء عن تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا كان دليل الوحدانية السالف دالاً على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة ، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام ، ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } .
وقوله : { لله } خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه { ما في السماوات } . الخ . ويقدّر المبتدأ مؤخّراً عن الخبر على وزان السؤال لأنّ المقصود إفادة الحصر .
واللام في قوله : { لله } للملك ؛ دلّت على عبودية الناس لله دون غيره ، وتستلزم أنّ العبد صائر إلى مالكه لا محالة ، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحقّ الخلق . ولا سبب للعبوديّة أحقّ وأعظم من الخالقية ، ويستتبع هذا الاستدلالُ الإنذار بغضبه على من أشرك معه .
وهذا استدلال على المشركين بأنّ غير الله ليس أهلاً للإلهيّة ، لأنّ غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك . وهو تمهيد لقوله بعده { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة } ، لأنّ مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها .
وجملة : { كتب على نفسه الرحمة } معترضة ، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله . وفي هذا الاعتراض معان :
أحدها : أنّ ما بعده لمّا كان مشعراً بإنذار بوعيد قُدّم له التذكير بأنّه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم ، على نحو قوله تعالى : { كتب ربّكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم } [ الأنعام : 54 ] ، والشرك بالله أعظم سوءٍ وأشدّ تلبّساً بجهالة .
والثاني : أنّ الإخبار بأنّ لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم مِلكه . فالكافر يقول : لو كان ما تقولون صدقاً لعجّل لنا العذاب ، والمؤمن يستبطىء تأخير عقابهم ، فكان قوله : { كتب على نفسه الرحمة } جواباً لكلا الفريقين بأنّه تفضّل بالرحمة ، فمنها رحمة كاملة : وهذه رحمته بعباده الصالحين ، ومنها رحمة موقّتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضّالّين .
والثالث : أنّ ما في قوله : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } من التمهيد لما في جملة { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } من الوعيد والوعد .
ذُكرت رحمة الله تعريضاً ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين .
الرابع : أنّ فيه إيماء إلى أنّ الله قد نجّى أمّة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذّب به الأمم المكذّبةَ رسلها من قبل ، وذلك ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذّبيه قضاء عاجلاً بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به ، كما رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا قالوا : { اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] قال الله تعالى { وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] . وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجاً ، وأيّد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض . وإذ قد قدّر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين ، لأنّ الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوتْه مكة من مشرك ومسلم ، ثم يحشرون على نيّاتهم ، كما ورد في الحديث لمّا قالت أمّ سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم " أنهلك وفينا الصالحون ، قال : نعم ، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نيّاتهم " فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان . وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } فقال : { أعوذ بسبحات وجهك الكريم } .
ومعنى { كتب } تعلّقت إرادته ، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلّقة تعلّقاً عامّاً مطّرداً بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصّاً بالنسبة إلى الأزمان والجهات . فلما كان ذلك مطّرداً شبّهت إرادته بالإلزام ، فاستعير لها فعل ( كتب ) الذي هو حقيقة في الإيجاب ، والقرينة هي مقام الإلهية ، أو جعَل ذلك على نفسه لأنّ أحداً لا يُلزم نفسه بشيء إلاّ اختياراً وإلاّ فإنّ غيره يُلزمه . والمقصود أنّ ذلك لا يتخلّف كالأمر الواجب المكتوب ، فإنّهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه ، كما قال الحارث بن حلّزة :
واذكروا حلــف ذي المجاز وما قدّم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فالرحمة هنا مصدر ، أي كتب على نفسه أن يرحم ، وليس المراد الصفة ، أي كتب على نفسه الاتّصاف بالرحمة ، أي بكونه رحيماً ، لأنّ الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له ، والواجب العقلي لا تتعلّق به الإرادة ، إلاّ إذا جعلنا { كتب } مستعملاً في تمجّز آخر ، وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتّم المفروض ، والقرينة هي هي إلاّ أنّ المعنى الأول أظهر في الامتنان ، وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حقّ شكره والمشركين له في ملكه غيره .
وفي « الصحيحين » من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش " إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي "
وجملة { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة } واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبّب من السبب ، فإنّه لمّا أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحّضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفّرق أجزاء الأجساد أو انعدامها .
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد . والمراد بالجمع استقصاء متفرّق جميع الناس أفراداً وأجزاءاً متفرّقة . وتعديته ب { إلى } لتضمينه معنى السوق . وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { الله لا إله إلاّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } في سورة [ النساء 87 ] .
وضمير الخطاب في قوله : ليجمعنّكم } مراد به خصوص المحجوجين من المشركين ، لأنّهم المقصود من هذا القول من أوله ؛ فيكون نِذارة لهم وتهديداً وجواباً عن أقلّ ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله : { كتب على نفسه الرحمة } كما تقدّم .
وجملة { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } الأظهر عندي أنّها متفرّعة على جملة { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة } وأنّ الفاء من قوله : { فهم لا يؤمنون } للتفريع والسببية .
وأصل التركيب : فأنتم لا تؤمنون لأنّكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة ؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنّهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم . وجعل { الذين خسروا أنفسهم } خبرَ مبتدأ محذوف . والتقدير : أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم ، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال « الكشاف » عن صحّة ترتّب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أنّ الأمر بالعكس .
وقيل : { الذين خسروا أنفسهم } مبتدأ ، وجملة : { فهم لا يؤمنون } خبره ، وقرن بالفاء لأنّ الموصول تضمّن معنى الشرط على نحو قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم } [ النساء : 15 ] . وأشرب الموصول معنى الشرط ليفيد شموله كلّ من اتّصف بمضمون الصلة ، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزّل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزّلة منزلة جملة الشرط ، فيفيد أنّ ذلك مستمرّ الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقّق فيها معنى الصلة . فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز .
ومعنى : { خسروا أنفسهم } أضاعوها كما يضيّع التاجر رأس ماله ، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع . فمعنى { خسروا أنفسهم } عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير ، فإنّه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور . وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن التدبّر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل ، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر . فعدم الإيمان مسبّب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع . ويتسبّب عن عدم الإيمان خسران آخر ، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب ، وفي الآخرة بالنجاة من النار ، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس . وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى : { أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون } [ هود : 21 ، 22 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة {لمن ما في السماوات والأرض} من الخلق، فردوا عليه في الرعد، قالوا: الله، في قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود في تكذيبهم بالبعث، قالوا: الله. {كتب على نفسه الرحمة} في تأخير العذاب عنهم، فأنزل الله في تكذيبهم بالبعث، {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} أنتم والأمم الخالية، {لا ريب فيه}: لا شك فيه، يعني في البعث بأنه كائن، ثم نعتهم، فقال: {الذين خسروا}: غبنوا، {أنفسهم فهم لا يؤمنون}: لا يصدقون بالبعث بأنه كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم: لمن ما في السموات والأرض؟ يقول: لمن ملك ما في السموات والأرض. ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كلّ شيء وقهر كل شيء بملكه وسلطانه، لا للأوثان والأنداد ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلها من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا.
"كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ": قضى أنه بعباده رحيم، لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة، يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء العادلين بي الجاحدين نبوّتك يا محمد، إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم، وإني قد قضيت في خلقي أن رحمتي وسعت كل شيء...
"لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ": وهذه اللام التي في قوله: لَيَجْمَعَنّكُمْ لام قسم. ثم اختلف أهل العربية في جالبها، فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت الرحمة غاية كلام، ثم استأنفتَ بعدها: "لَيَجْمَعَنّكُمْ"، قال: وإن شئت جعلته في موضع نصب، يعني كتب "لَيَجْمَعَنّكُمْ "كما قال: "كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ "يريد: كتب أنه من عمل منكم. قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جواب كلام الأيمان بأن المفتوحة وباللام، فيقولون: أرسلت إليه أن يقوم، وأرسلت إليه ليقومنّ. قال: وكذلك قوله: "ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِما رَأُوا الآياتِ ليَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ". قال وهو في القرآن كثير... وكان بعض نحوي البصرة يقول: نصبت لام "لَيَجْمَعَنّكُمْ" لأن معنى:"كتب" [فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم]، (1) كأنه قال: والله ليجمعنكم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون قوله: "كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ" غاية، وأن يكون قوله: "لَيَجْمَعَنّكُمْ" خبر مبتدأ، ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله أيها العادلون بالله ليوم القيامة الذي لا ريب فيه لينتقم منكم بكفركم به.
وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال "كتبَ" في "لَيَجْمَعَنّكُمْ" لأن قوله: "كَتَبَ" قد عمل في الرحمة، فغير جائز وقد عمل في الرحمة أن يعمل في: "لَيَجْمَعَنّكُمْ" لأنه لا يتعدى إلى اثنين.
فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنه بفتح أن؟ قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك، فإن «أن» بيان عن الرحمة وترجمة عنها، لأن معنى الكلام: كتبَ على نفسه الرحمة أن يرحم من تاب من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة، ويعفو، والرحمة يترجم عنها ويبين معناها بصفتها، وليس من صفة الرحمة "لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ" فيكون مبينا به عنها. فإن كان ذلك كذلك، فلم يبق إلا أن ينصب بنية تكرير كتب مرة أخرى معه، ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك فتوجه إلى ما ليس بموجود في ظاهر.
"لا رَيْبَ فِيهِ": لا يشكّ فيه، يقول: في أن الله يجمعكم إلى يوم القيامة فيحشركم إليه جميعا، ثم يؤتي كلّ عامل منكم أجر ما عمل من حسن أو سيّئ.
"الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يؤْمِنُونَ": العادلين به الأوثان والأصنام، يقول تعالى ذكره: ليجمعنّ الله الذين خسروا أنفسهم، يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندّ والعديل، فأبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد. وأصل الخسار: الغَبْن، يقال منه: خسر الرجل في البيع: إذا غبن... "فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ": فهم لإهلاكهم أنفسهم وغبنهم إياه حظها لا يؤمنون، أي لا يوحدون الله ولا يصدّقون بوعده ووعيده ولا يقرون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ).
أحدهما: أن يخرج مخرج البيان لهم وأنه ليس على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر لكان يذكر سؤاله لهم، ولم يذكر، وإن سألهم، لا يحتمل ألا يخبروه بذلك، فلما لم يذكر سؤاله لهم عن ذلك، ولا يحتمل أن يأمره بالسؤال ثم لا يسأل، أو يسأل هو ولا يخبرونه -فدل أنه على البيان خرج لا على الأمر.
والثاني: على أمر سبق؛ كقوله- تعالى -: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، وكقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...)، إلى قوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه، كان على أمر سبق، فسخرهم -عَزَّ وَجَلَّ- حتى قالوا: اللَّه؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ذلك تسخير منه إياهم حتى قالوا: اللَّه.
وفي حرف ابن مسعود، وأبي بن كعب -رضي اللَّه عنهما- (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) هذا يدل على أنه كان على أمر سبق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: سلهم، فإن أجابوك فقالوا: لله، وإلا فقل لهم أنت: لله.
وقال قائلون: فإن سألوك لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
قال الحسن: كتب على نفسه الرحمة للتوابين إن شاء أن يدخلهم الجنة، لا أحد يدخل الجنة بعمله، إنما يدخلون الجنة برحمته، وعلى ذلك جاء الخبر عن نبي اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -قال:"لا يدخل أحد الجنة بعمله" قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته".
وقيل: كتب على نفسه الرحمة أن يجمعهم إلى يوم القيامة، أي: من رحمته أن يجمعهم إلى يوم القيامة، حيث جعل للعدو عذابًا، وللولي ثوابًا، أي: من رحمته أن يجمعهم جميعًا، يعاقب العدو ويثيب الولي.
وقيل: أي: من رحمته أن جعل لهم الجمع، فأوعد العاصي العذاب، ووعد المطيع الثواب؛ ليمنع العاصي ذلك عن عصيانه، وليرغب المطيع في طاعته، وذلك من رحمته.
وقال قائلون: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لأمة مُحَمَّد ألا يعذبهم عند التكذيب، ولا يستأصلهم، كما عذب غيرهم من الأمم، واستأصلهم عند التكذيب، فالتأخير الذي أخرهم إلى يوم القيامة من الرحمة التي كتب على نفسه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {... كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجبها ربكم على نفسه، وفيها أربعة أوجه: أحدها: أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته. والثاني: ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته. والثالث: إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام. والرابع: قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} وهذا توعد منه بالعبث والجزاء أَخَرجَه مَخْرَج القسم تحقيقاً للوعد والوعيد، ثم أكده بقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} سؤال تبكيت، و {قُل لِلَّهِ} تقرير لهم، أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات الأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} فيجازيكم على إشراككم. وقوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} نصب على الذم، أو رفع: أي أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت: معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر، فهم لا يؤمنون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: {قل لمن ما في السماوات والأرض}؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل: لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل: لله.
والصحيح أن الله عز وجل أمر محمداً عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: {لمن ما في السماوات والأرض} والوجه في الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم {لمن ما في السماوات والأرض}؟ ثم سبقهم فقال: {لله}، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} معناه قضاها وأنفذها...
المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع، وتقرير المعاد وتقرير النبوة. وبيانه: أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها، ومتى كان كذلك، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لابد وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصه بتلك الصفة المعينة، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى...
المسألة الثانية: قوله تعالى: {قل لمن ما في السموات والأرض} سؤال. وقوله {قل لله} جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا. وهذا، إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع. ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، ليدل ذلك على أن الإقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة... {كتب على نفسه الرحمة} فكأنه تعالى قال: إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام، بل أبدا ينعم وأبدا يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم. واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم: تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا. وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم...
أما قوله {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} ففيه أبحاث:
الأول:"اللام" في قوله {ليجمعنكم} لام قسم مضمر، والتقدير: والله ليجمعنكم...وقيل: إنه لما قال: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنه تعالى {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا، فكان قوله {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} كالتفسير لقوله {كتب ربكم على نفسه الرحمة}... البحث الثالث: أن قوله {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} كلام ورد على لفظ الغيبة. وقوله {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} كلام ورد على سبيل المخاطبة. والمقصود منه التأكيد في التهديد، كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله وملكه، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل؟...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قل لمن ما في السماوات والأرض} خلقا وملكا، وهو سؤال تبكيت. {قل لله} تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالاتفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. {كتب على نفسه الرحمة} التزمها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر...
{الذين خسروا أنفسهم} بتضييع رأس مالهم. وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم.
{فهم لا يؤمنون} والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد، فالمراد به أنه وعد ذلك وعداً مؤكداً وهو منجزه لا محالة. وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر و إشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} فيجازيكم على إشراككم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمرهم سبحانه بالسير، سألهم هل يرون في مسيرهم وتطوافهم وجولانهم واعتسافهم شيئاً لغير الله؟ تذكيراً لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولاً وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانياً، استعطافاً لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته، وتقبيحاً لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره. فقال مقرراً لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد، ومبكتاً بسفههم وشدة جهلهم وعمههم: {قل لمن} ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود {ما في السماوات والأرض)
ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة، أشار إلى ذلك بقوله معرضاً عن انتظار جوابهم توبيخاً لهم بعدم النصفة التي يدعونها: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلماً ولا كفوء له، لا لغيره، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك، لا سيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسن أن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان، فكان الإقرار به بن ضروري، لا خلاف فيه.
ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسنة لذيذة طيبة شهية، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته، وكان ذلك أهلاً لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان، قال دالاً على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفاً: {كتب} أي وعد وعداً هو كالمكتوب الذي ختم، وأكد غاية التأكيد، أو كتب حيث أراد سبحانه.
ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال: {على نفسه الرحمة} أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات.
ولما كان ذلك مطمعاً للظالم البطر، ومعجباً محيراً مؤسفاً للمظلوم المنكسر، قال محذراً مرحباً مبشراً ملتفتاً إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالاً على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار، فيكون قادراً على الإعادة، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالماً بجميع المعلومات، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع: {ليجمعنكم} أي والله محشورين شيئاً فشيئاً {إلى يوم القيامة} للعدل بين جميع العباد كائناً {لا ريب فيه} أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية.
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق: الشقي والسعيد القريب والبعيد، كان كأنه قيل: فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به، فقال جواباً: {الذين خسروا أنفسهم} أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم {فهم} أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد {لا يؤمنون} فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى: إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين تعالى في الآيات السابقة أصول الدين وما يدل عليها، وشبهات الكفار على الرسالة مع ما يدحضها، وهدى رسوله إلى سنته في الرسل وأقوامهم لتسليته وتثبيت قلبه، المعين له على المضي في تبليغ دعوة ربه، ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب، وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين – وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا – لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة؟ لا جرم أنهم يكونون في منتهى السآمة والضجر من سماع ذلك، وفي غاية النفور منه، كيف وقد كان المعاندون منهم ينهون عن هذا القرآن وينأون عنه على ما امتاز به في مقام التفنن والتنويع، والبلاغة المعجزة في كثرة الأساليب.
قال عز وجل: {قل لمن ما في السماوات والأرض} أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرضين عما جئتهم به من أمر التوحيد والبعث والجزاء: لمن هذه المخلوقات في العالم كله علويه وسفليه؟ السؤال تمهيد لحجة جديدة، وقد بينا في تفسير الآيات السابقة أن العرب كانت تؤمن بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وأن كل ما فيهما ومن فيهما ملك وعبيد له. ولفظ « ما» يشمل العقلاء مع غيرهم، وجزم في الكشاف بأن السؤال للتبكيت وأن قوله تعالى: {قل لله} تقرير لهم، أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره. وقال غيره: تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار. وقال الرازي أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع. ثم بين أن هذا من هذا، واحتج على أن كل ذلك لله بما في العالم المادي من آثار الحدوث والإمكان، على طريقة المتكلمين في الاستدلال.
ونقول: إن إتيان السائل بالجواب يحسن في غير الموضع الذي حصر الرازي الحسن فيه، وهو أن يكون ما يأتي به عين ما يعتقده المسؤول وما يجيب به إن أجاب، وإنما يسبقه إليه ليبني عليه شيئا آخر من لوازمه هو مما يجهله المسؤول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده. ليس المسؤول عنه هنا مما لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع، فقد أنكره أهل الإلحاد والتعطيل، فالظاهر أن يقال إن الله تعالى أمره بالجواب وأن يبدأه بما كانوا يجيبون به كما علم من آيات أخرى ليبني عليه قوله {كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}، والمعنى أن الله تعالى الذي تقرون معي بأن له ما في السموات وما في الأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه كما يعلم ذلك من إفاضة نعمه عليهم ظاهرة وباطنة. ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة حال كونه لا ريب فيه – أو جمعا لا ريب فيه – أي ليس من شأنه أن يرتاب فيه من تدبر دلائل رحمة الله وحكمته، فإن هذا الجمع لأجل الحساب والجزاء فهو رحمة بالمكلفين ينافي الفوضى والإهمال واستباحة الظلم، والعلم به رحمة أيضا، لأنه وازع نفسي لا يتم تهذيب النفس بدونه، بل الرحمة أعم من ذلك. فمن رحمته تعالى بالناس ما منحهم من هدايات الحواس والوجدان والعقل وهداية الدين المقوم لما يجنونه على تلك الهدايات باستعمالها فيما يضرهم ولا ينفعهم، والمساعدة لهم على تكميل فطرتهم وتزكية أنفسهم.
بيان ذلك أن من أصول دينه القويم – الذي هو مظهر رحمته العليا الموافق لفطرته التي فطر الناس عليها – أن لأعمال البشر جزاء فطريا هو أثر لازم للعمل بحسب سنته تعالى في تأثير الأعمال النفسية والبدنية في إصلاح الأنفس أو إفسادها، وجزاء آخر وضعيا أو شرعيا تابعا له هو إنشاء فضل أو عدل منه عز وجل، فالأول – وهو الأصل – ما يترتب على تزكية النفس بالعقائد الصحيحة والعلوم الثابتة والأخلاق الكريمة التي تطبعها فيها عبادة الله تعالى وحسن المعاملة مع خلقه من هناء المعيشة في الدنيا بالجمع بين لذة الحياء العقلية والروحية ولذة الحياة الجسدية المعتدلة وهو أدنى الجزاءين وأقلهما وغير المطرد منهما – وما يترتب على ذلك من النعيم المقيم في الآخرة – وهو الكامل المطرد – وما يترتب على تدسية النفس وإفساد فطرتها بالعقائد الباطلة كخرافات الوثنية وأوهامها أو بسفساف الأخلاق والملكات الرديئة التي تطبعها فيها تلك الأوهام السخيفة والأعمال القبيحة والعبادات الوثنية من شقاء المعيشة في الدنيا وعذاب الآخرة وكل منهما من لوازم تلك العقائد والأخلاق والأعمال، فهي كالأعمال الضارة والوساوس العصبية (الهستيرية) التي تترتب عليها الأمراض المعضلة والأدواء القاتلة.
كما أن ما تقدم من مقابلها يشبه الأعمال البدنية والنفسية التي يرتاض بها البدن والعقل حتى يبلغ بهما المرء من الصحة والاعتدال، ما هو مقدر له من الكمال، فعلى هذا تكون هداية الدين للعقائد الصحيحة والفضائل والآداب والعبادات وزجره عن الوثنية والخرافات والرذائل والشرور – كل ذلك كبث الوصايا الصحية والعلوم الطبية في الناس، ليكون لهم وازع من أنفسهم يتقون به ما يضرهم ويقبلون على ما ينفعهم – وتلك رحمة عظيمة بهم، ولا ينافي كون ذلك من الرحمة ما يترتب على الباطل والشر من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة. لأنه جناية منهم على أنفسهم، فمثلهم فيه كمثل المريض يخالف أوامر الطبيب ونواهيه الخاصة ويخالف الوصايا الصحية العامة فيزداد أمراضا وأسقاما، ولا ينافي ذلك كون تلك الوصايا رحمة بالناس ونعمة عليهم.
وأما الجزاء الثاني الذي هو إنشاء من مقتضى الفضل أو العدل فهو مترتب على الجزاء الأول وتابع له وهو قسمان أحدهما: ما يزيد الله المحسنين من الكرامة والنعيم بفضله، على ما استحقوه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة بحسب وعده، ولما كانت الرحمة أعم وأوسع وأعظم كان هذا النوع من الجزاء خاصا بالمحسنين من عباده، فهو رحمة خاصة نسأله تعالى أن يجعلنا من خيار أهلها.
وثانيهما: القصاص في الحقوق وإن قلت وما يقتص به تعالى في الآخرة للمظلومين من الظالمين بحسب عدله. ولما كان مقتضى الرحمة والفضل، أعم وأسبق من مقتضى العدل، كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنهم، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة، ولكن لا يزاد فيه شيء قط. وإنما الزيادة في الجزاء على الإحسان: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام: 160] {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما} [النساء: 173] وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا فهو كبيان الحكومة العادلة للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة، وما ينال المحسنين من الأمن والعز والترقي في خدمة الدولة. روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية « إن رحمتي سبقت غضبي» وإنما السبق والغلب في أثري الرحمة والغضب وتعلقهما لا في الصفات أنفسها، وسنزيد هذا البحث بيانا في تفسير {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] من سورة الأعراف إن أحيانا الله تعالى.
أما تعلق جميع الناس إلى يوم القيامة بكتابة الرحمة من جهة نظم الكلام وإعرابه فقيل إن كتابة الرحمة تأكيد لها في معنى القسم وجملة « ليجمعنكم» جواب لقسم محذوف حل محله ما في معناه. وقيل إن الجملة استئناف بياني. كأنه قيل وما مقتضى هذه الرحمة، وما موقعها من موضوع دعوة الرسالة؟ فقيل إنه تعالى أقسم ليجمعنكم، إذ لو لم يجمعكم للحساب والجزاء لظل كثير من المحسنين منكم مغبونين محرومين، وكثير من المظلومين مهضومين. وكثير من الظالمين المسيئين غير مؤاخذين، ذلك بأن ما يترتب على الأعمال الحسنة في الدنيا من حسن الأثر وعلى الأعمال السيئة من قبح الأثر ليس عاما مطردا في جميع الأفراد كما تقدم آنفا وهو يعلم من الاختيار ومن سنن الله الاجتماعية والكونية، وذلك ينافي الرحمة، كما ينافي العدل والحكمة، فمن مقتضى كتابته سبحانه الرحمة على نفسه أن يجمع الناس للفصل بينهم وجزاء كل منهم بما يقتضيه العدل في الكل والفضل في البعض. والجمع بمعنى الحشر ويتعديان بإلى، يقال: جمعهم إليه وحشرهم إليه. وجمع الناس إلى يوم القيامة معناه حشرهم إلى موقفه أو حسابه، أو معناه ليجمعنكم منتهين إلى ذلك اليوم. وقيل إن « إلى» صلة وقيل إنها بمعنى في، وكلاهما ضعيف.
وأما قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12)} فمعناه أخص هؤلاء ممن يجمعون إلى يوم القيامة بالذكر أو التذكير أو بالذم والتوبيخ فإنهم لخسرانهم أنفسهم في الدنيا لا يؤمنون بالآخرة. ولا شك في أن هؤلاء أولى بأن يتمتعوا بالتذكير، أو بالذم المفضي إلى التفكير، وقيل إن المعنى ليجمعنكم إلى يوم القيامة أنتم أيها الذين خسروا أنفسهم الخ خاطبهم كافة ثم أبدل من الكل بعضه الأجدر بالخطاب الأحوج إليه – أو وصف أولئك المخاطبين بهذا الوصل الدال على أنه هو مناط الإنذار والوعيد. وقيل إن الجملة مستقلة معناها أن الذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون بهذا الجمع ولا ينتفعون بخبره. والأول أقوى وأظهر. وخسارة الأنفس عبارة عن إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله تعالى من الهدايات التي أشرنا إليه آنفا. فالمقلدون قد خسروا أنفسهم لأنهم حرموا أنفسهم من استعمال أشرف النعم الغريزية وهو العقل، وحرموا على أنفسهم أفضل الفضائل الكسبية وهو العلم والفهم.
وإذا كان بعض الأئمة قد صرح بأن المجتهد المخطئ أفضل من المقلد لمجتهد مصيب، فكيف يكون حال المقلد في الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى. والحرمان من مضاء العزيمة وقوة الإرادة خسران للنفس يضاهي خسرانها بفقد العلم الاستدلالي، فإن ضعيف الإرادة إن أوتي حظا من العلم لا يقوم بحقه ولا يعمل به كما يجب، لأن ما يهدي إليه العلم الصحيح من وجوب نصر الحق وخذل الباطل ومجاهدة الأهواء الرديئة وعمل الخير والتعاون على البر – كل ذلك لا يخلو من مشقة لا يحملها إلا ذو العزيمة الصادقة، والإرادة الثابتة.
فمن خسر نفسه بالتقليد لا ينظر ولا يستدل حتى يهتدي إلى الإيمان، ومن خسر نفسه بوهن الإرادة قلما ينظر ويستدل أيضا، فإن هو نظر وظهر له الحق بما قام من البرهان عليه قعد به ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين، واحتقار الأهل والمعاشرين، لمن ترك دين آبائه وأجداده، وصبا إلى حزب أعدائهم وأعدائه. هذا ما يقال في مثل حال المشركين في عهد نزول هذه السورة. وإن ضعف الإرادة ليصد صاحبه في كل زمان ومكان عن الواجبات وسائر الأعمال التي لا بد فيها من احتمال مشقة بدنية أو نفسية وإن كانت من أعمال الإيمان ومصالح الأمة والوطن، ولو بحثت عن خسران الأفراد المعلمين الذين يعرفون الحقوق والواجبات لكرامة أنفسهم، وخسران الجماعات والأمم التي تولي زعامتها أمثال هؤلاء الأفراد لاستقلالها وصلاح أمرها – لرأيت سبب هذا وذاك وهن العزيمة وذبذبة الإرادة. فالفوز والفلاح في الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين يصدق عليه أنه خسر نفسه سواء كان فردا أو أمة، فما بال من خسرهما كلتيهما والعياذ بالله تعالى.
وقد لمح الزمخشري إلى خسران النفس في الآخرة فأورد على الآية إشكالا وأجاب عنه على طريقة المتكلمين جوابا في غير محله. قال: (فإن قلت) كيف جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ (قلت) معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الموجة الجديدة ذات المد العالي والإيقاع الرهيب، تجيء في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ وما ختم به هذا الحديث وما تخلله من التهديد المخيف؛ مع توجيه الأنظار والقلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين المستهزئين.. كما أنها تجيء بعد موجة الافتتاح السابقة للحديث عن المكذبين؛ والتي عرضت حقيقة الألوهية في المجال الكوني العريض؛ وفي المجال الإنساني العميق. وهي كذلك تعرض حقيقة الألوهية في مجالات أخرى، بإيقاعات جديدة؛ ومع مؤثرات كذلك جديدة.. فيقع الحديث عن التكذيب بين موجة الافتتاح وهذه الموجة؛ ويبدو أمره في غاية النكارة وفي غاية البشاعة! ولقد عرضت الموجة الأولى حقيقة الألوهية ممثلة في خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق الإنسان من طين، وقضاء الأجل الأول لعمره، وتسمية الأجل الثاني لبعثه. مقررة شمول ألوهية الله للسماوات وللأرض، وإحاطة علمه بسر الناس وجهرهم وما يكسبونه في السر والجهر.. كل أولئك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق في الحياة الإنسانية. من إسلامها بجملتها لله وحده، لا تعدل به أحدا، ولا تمتري في هذه الوحدانية. ومن إقرارها بشمول الألوهية لشئون الكون ولشئون الحياة الإنسانية في السر والجهر. ومن ترتيب النتائج الطبيعية لهذه الحقائق في الاستسلام لحاكمية الله وحده في شؤون الحياة الأرضية كالاستسلام لهذه الحاكمية في الشؤون الكونية.. فأما هذه الموجة الجديدة فتستهدف كذلك إبراز حقيقة الألوهية، ممثلة في الملك والفاعلية، وفي الرزق والكفالة؛ وفي القدرة والقهر؛ وفي النفع والضر.. كل ذلك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي.. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق من توحيد الولاية والتوجه؛ وتوحيد الاستسلام والعبودية.. واعتبار الولاية والتوجه مظهر الاستسلام والعبودية. فإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنكر أن يتخذ غير الله وليا؛ بين أن هذا الاستنكار قائم أولا على أن الله يطعم ولا يطعم؛ وقائم ثانيا على أن تولي غير الله نقض لما أمر به من الإسلام وعدم الشرك أيضا.. ويصاحب عرض حقيقة الألوهية، في هذه الصورة ولهذا الغرض، جملة مؤثرات قوية تخلخل القلوب. تبدأ بعرض حقيقة الملكية لكل شيء. وحقيقة أن الله هو الذي يطعم ولا يطعم. وعرض العذاب الرعيب الذي يعد مجرد صرفه رحمة من الله وفوزا عظيما. وعرض القدرة على الضر والخير. وعرض الاستعلاء والقهر. وعرض الحكمة والخبرة.. ثم الإيقاع الرهيب المزلزل، المتمثل في الأمر العلوي الهائل:قل. قل. قل: فإذا تم هذا العرض بكل مؤثراته العميقة، جاء الختام بالإيقاع العالي المجلجل.. إيقاع الإشهاد على التوحيد، وإنكار الشرك، والمفاصلة الحاسمة؛ مصحوبا كذلك بالأمر العلوي في كل فاصلة: (قل:أي شيء أكبر شهادة؟).. (قل:الله).. (قل:لا أشهد).. (قل:إنما هو إله واحد).. مما يضفي على الجو كله رهبة غامرة؛ ويضفي على الأمر كله طابع جد مرهوب!
(كتب على نفسه الرحمة).. فهو سبحانه المالك، لا ينازعه منازع، ولكنه -فضلا منه ومنة- كتب على نفسه الرحمة. كتبها بإرادته ومشيئته؛ لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح؛ ولا يقتضيها منه مقتض -إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة- وهي -الرحمة- قاعدة قضائه في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة.. والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.. والرحمة في هذا كله ظاهرة.. على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال. فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة.. إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار! ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها -وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي- ولكننا سنحاول أن نقف قليلا أمام هذا النص القرآني العجيب: (كتب على نفسه الرحمة)...
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه -سبحانه- على نفسه من رحمته. فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم؟...إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه -حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار- فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحدا يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها...والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرى ء على المعصية -كما يتوهم البعض- إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية! ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة: أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة: (قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله. كتب على نفسه الرحمة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه..).. ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا.. وهؤلاء لن يخسروا شيئا ويكسبوا شيئا.. هؤلاء خسروا كل شيء.. فقد خسروا أنفسهم كلها، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قل لمن ما في السماوات والأرض} تكرير في مقام الاستدلال، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهاماً تقريرياً، والتقرير من مقتضيات التكرير، لذلك لم تعطف الجملة. ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصوداً به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} في هذه السورة [40]. والاستفهام مستعمل مجازاً في التقرير. والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشركَ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي.
.. وجملة: {كتب على نفسه الرحمة} معترضة، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله. وفي هذا الاعتراض معان:
أحدها: أنّ ما بعده لمّا كان مشعراً بإنذار بوعيد قُدّم له التذكير بأنّه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم، على نحو قوله تعالى: {كتب ربّكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم} [الأنعام: 54]، والشرك بالله أعظم سوءٍ وأشدّ تلبّساً بجهالة.
والثاني: أنّ الإخبار بأنّ لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم مِلكه. فالكافر يقول: لو كان ما تقولون صدقاً لعجّل لنا العذاب، والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم، فكان قوله: {كتب على نفسه الرحمة} جواباً لكلا الفريقين بأنّه تفضّل بالرحمة، فمنها رحمة كاملة: وهذه رحمته بعباده الصالحين، ومنها رحمة موقّتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضّالّين.
والثالث: أنّ ما في قوله: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} من التمهيد لما في جملة {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} من الوعيد والوعد.
ذُكرت رحمة الله تعريضاً ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين.
الرابع: أنّ فيه إيماء إلى أنّ الله قد نجّى أمّة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذّب به الأمم المكذّبةَ رسلها من قبل، وذلك ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذّبيه قضاء عاجلاً بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به، كما رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا قالوا: {اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] قال الله تعالى {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]. وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجاً، وأيّد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض. وإذ قد قدّر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين، لأنّ الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوتْه مكة من مشرك ومسلم، ثم يحشرون على نيّاتهم، كما ورد في الحديث لمّا قالت أمّ سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نيّاتهم "فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان. وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم} فقال: {أعوذ بسبحات وجهك الكريم}.
ومعنى {كتب} تعلّقت إرادته، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلّقة تعلّقاً عامّاً مطّرداً بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصّاً بالنسبة إلى الأزمان والجهات. فلما كان ذلك مطّرداً شبّهت إرادته بالإلزام، فاستعير لها فعل (كتب) الذي هو حقيقة في الإيجاب، والقرينة هي مقام الإلهية، أو جعَل ذلك على نفسه لأنّ أحداً لا يُلزم نفسه بشيء إلاّ اختياراً وإلاّ فإنّ غيره يُلزمه. والمقصود أنّ ذلك لا يتخلّف كالأمر الواجب المكتوب، فإنّهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه.
.. فالرحمة هنا مصدر، أي كتب على نفسه أن يرحم، وليس المراد الصفة، أي كتب على نفسه الاتّصاف بالرحمة، أي بكونه رحيماً، لأنّ الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له، والواجب العقلي لا تتعلّق به الإرادة، إلاّ إذا جعلنا {كتب} مستعملاً في تمجّز آخر، وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتّم المفروض، والقرينة هي هي إلاّ أنّ المعنى الأول أظهر في الامتنان، وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حقّ شكره والمشركين له في ملكه غيره.
وجملة {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبّب من السبب، فإنّه لمّا أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحّضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفّرق أجزاء الأجساد أو انعدامها.
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد. والمراد بالجمع استقصاء متفرّق جميع الناس أفراداً وأجزاء متفرّقة. وتعديته ب {إلى} لتضمينه معنى السوق. وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {الله لا إله إلاّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} في سورة [النساء 87].
وضمير الخطاب في قوله: ليجمعنّكم} مراد به خصوص المحجوجين من المشركين، لأنّهم المقصود من هذا القول من أوله؛ فيكون نِذارة لهم وتهديداً وجواباً عن أقلّ ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله: {كتب على نفسه الرحمة} كما تقدّم.
وجملة {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} الأظهر عندي أنّها متفرّعة على جملة {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة} وأنّ الفاء من قوله: {فهم لا يؤمنون} للتفريع والسببية.
وأصل التركيب: فأنتم لا تؤمنون لأنّكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنّهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم. وجعل {الذين خسروا أنفسهم} خبرَ مبتدأ محذوف. والتقدير: أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال « الكشاف» عن صحّة ترتّب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أنّ الأمر بالعكس.
وقيل: {الذين خسروا أنفسهم} مبتدأ، وجملة: {فهم لا يؤمنون} خبره، وقرن بالفاء لأنّ الموصول تضمّن معنى الشرط على نحو قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} [النساء: 15]. وأشرب الموصول معنى الشرط ليفيد شموله كلّ من اتّصف بمضمون الصلة، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزّل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزّلة منزلة جملة الشرط، فيفيد أنّ ذلك مستمرّ الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقّق فيها معنى الصلة. فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز.
ومعنى: {خسروا أنفسهم} أضاعوها كما يضيّع التاجر رأس ماله، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع. فمعنى {خسروا أنفسهم} عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير، فإنّه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور. وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن التدبّر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر. فعدم الإيمان مسبّب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع. ويتسبّب عن عدم الإيمان خسران آخر، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس. وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون} [هود: 21، 22].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ونميل إلى أن الاستفهام للتنبيه، فإنه من أمثل الطريق لتقرير الحقائق، السؤال ثم الإجابة ولذلك كانت الإجابة بأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (قل الله) فكانت الإجابة تقريرا للحقيقة الثابتة التي يدركها العقل السليم وهي مما يوجبه الإيمان وتقرره الفطرة وبداهة العقول...
وهنا بعض إشارات بيانية: الأولى: أن أكد جمع الناس يوم القيامة وذلك ب (اللام) الدالة قسم مطوي في القول، وبنون التوكيد الثقيلة. والثانية: تعدية الجمع، ب (إلى) دون (في) للإشارة إلى أن الجمع نهايته تكون يوم القيامة فهم يحشرون في القبور والجمع مستمر في ذلك. الثالثة: إثبات أن ذلك اليوم لا شك فيه عند أهل الدراية والمعرفة ومن يشك فيه فهو ليس ذا إدراك سليم، وإذا كان بعض الناس يشك فيه، فليس ذلك إلا من سقم الإدراك وفساد الفطرة وينبغي ألا يشك فيه مدرك فالبديهة تقول إن الله تعالى لم يخلق الكون عبثا، ولم يخلق عبثا بل خلقه ليفنى ثم ليبقى من بعد ذلك ومن خلق في الابتداء قادر على الإعادة في الانتهاء وبين سبحانه بعد ذلك الحال الواقعة للذين يكفرون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر وأن شرهم متكاثف يردف بعضه بعضا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
السؤال أسلوب قرآني في إثارة الفكر:
ويتابع القرآن في هذه السورة الحديث عن قصة الإيمان بالله، فيبدأ حديثه بإثارة حالة التأمّل الذاتي التي تدفع الإنسان إلى اكتشاف ما في داخل أعماقه من أفكارٍ وقناعاتٍ حول الإيمان، ليستعيد بذلك جزءاً من نفسه ضاع بين الأجواء اللاهية، والأوضاع المنحرفة، والضجيج الذي يشغله عن حياته، فيستسلم لما يوحيه إليه الآخرون من دون وعيٍ أو انتباهٍ.. وذلك بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه.. مما كان القرآن يثيره في الداخل من أساليب متنوّعةٍ، فيطرح سؤالاً، ليثير في النفس تساؤلاً، ويحرك التفكير في هذا الاتجاه أو ذاك لأن المشكلة عند كثير من الناس أنهم لا يفكرون، لأنهم لا يتساءلون، وإذا تساءلوا كان السؤال مجرّد صيحةٍ ضائعةٍ في النفس، فلا يبحثون عن جوابٍ له من داخل الذات أو من خارجها، لأنهم يواجهون كثيراً من القضايا مواجهة اللامبالاة. إن الإنسان يبدأ دائماً بالتفكير من خلال إثارة علامات الاستفهام من حوله، ولهذا نلاحظ أن الطفل يبدأ عملية التفكير عندما يبدأ في التطلع إلى الأشياء من حوله بنظرة استفهامٍ وتساؤلٍ.. فيبدأ بطرح الأسئلة حول هذا وذاك، ما يوحي بأنه قد بدأ يفكر بجدّيةٍ.. وهذا ما أشار إليه القرآن في أكثر من مرة، في التأكيد على أن المشكلة الأساس في قضية الكافرين، هي أنهم يواجهون قضايا العقيدة بموقف اللامبالاة، فلا يفكرون في تفاصيلها ليتخذوا موقف السلب والإيجاب على أساس ذلك. وهكذا طرح القرآن في الآية الأولى السؤال: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَواتِ وَالأرْضِ}؟ وتولّى هو الجواب للإيحاء بأنه يمثل بديهة من بديهيات التفكير الذي يبعث السائل على أن يجيب دون أن ينتظر جواب المسؤول: {قُل للَّهِ}. ثم يفيض في الحديث عن الله من جديد من خلال ارتباط الإيمان به والالتزام بعبوديته وبقضية المصير، ليجتمع إليه الفكر في نطاق الحقيقة الموضوعية، بالفكر في نطاق علاقته بمصير الإنسان، وهذا من أساليب القرآن في تربية الدوافع الفكرية لدى الإنسان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإِشارة إِلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب، والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة. يتكون الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين: أوّلا: يقول: (قل لمن ما في السموات والأرض). ثمّ يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: (قل لله)، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً لله وبيده وتدبيره. ثانياً: إِنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: (كتب على نفسه الرحمة). أيمكن لربٍّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائياً بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله فياضاً وذا رحمة واسعة؟ أيمكن أن يكون قاسياً على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إِلى لا شيء؟ طبعاً لا، إِذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات وخاصة البشر في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إِلى شجيرة ورد جميلة، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إِلى إنسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإِنسان الذي عند إمكانية الخلود لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: (ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه). إنّ الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإِقرار من السامع، ولمّا كان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإنّ الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل...
في مواضع أُخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أُخرى، بطريق قانون العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإِلهية، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال جديد جاءت به هذه الآية.