في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :

( وقالت : هيت لك ) .

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !

لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !

وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .

وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .

أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .

الذي خطر لي أن قوله تعالى :

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .

هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .

هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .

( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة من السلف في ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره ، والله أعلم .

وقال بعضهم : المراد بهمه بها هَمّ خَطَرات حديث{[15125]} النفس . حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ، ثم أورد{[15126]} البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إذا هَمّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها من جَرّائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها " {[15127]} .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين{[15128]} وله ألفاظ كثيرة ، هذا منها .

وقيل : هم بضربها . وقيل : تمناها زوجة . وقيل : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : فلم يهم بها .

وفي هذا القول نظر من حيث العربية ، ذكره ابن جرير وغيره{[15129]} .

وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا : فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، وأبي صالح ، والضحاك ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب ، عليه السلام ، عاضا على أصبعه بفمه{[15130]} .

وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : رأى خيال{[15131]} الملك ، يعني : سيده ، وكذا قال محمد بن إسحاق ، فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال إطفير سيده ، حين دنا من الباب{[15132]} .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن أبي مودود{[15133]} سمعت من محمد بن كعب القُرَظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ]

وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني ، عن محمد بن كعب .

وقال عبد الله بن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول في : " البرهان " الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } الآية [ الانفطار : 10 ] ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الآية : [ يونس : 61 ] ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ]قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية رابعة { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا } [ الإسراء : 32 ]

وقال الأوزاعي : رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه{[15134]} عن ذلك .

قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به ، وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون [ صورة ]{[15135]} الملك ، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك . ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى .

قال : وقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } أي : كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره .

{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي : من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه .


[15125]:- في ت ، أ : "وحديث".
[15126]:- في أ : "وأورد".
[15127]:- معالم التنزيل (4/231).
[15128]:- صحيح البخاري برقم (7501) وصحيح مسلم برقم (205).
[15129]:- تفسير الطبري (16/38 ، 39) وما ذكره الحافظ هنا في معنى الهم غير مسلم به ، والراجح هو ما اختاره أبو حيان في تفسيره ونقله عنه العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/60) وقال : "والجواب الثاني - وهو الذي اختاره أبو حيان - أن يوسف لم يقع منه هم أصلا ، بل هو +منفى عنه لوجود البرهان..." وانظر بقية كلامه هناك.
[15130]:- في ت ، أ : "يعظه".
[15131]:- في ت ، أ : "تمثال".
[15132]:- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى (10/297) : "وما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك ، فهو مما لم يخبر الله به ولا رسوله ، وما لم يكن كذلك ، فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء ، وقدحا فيهم ، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا". وانظر : الإسرائيليات في كتب التفسير لمحمد أبو شهبة (ص 220 - 225).
[15133]:- في ت : "مردود".
[15134]:- في ت ، أ : "والجدار نهاه".
[15135]:- زيادة من ت ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

وقوله : { ولقد همت به } الآية ، لا شك أن «هم » زليخا كان في أن يواقعها يوسف ، واختلف في «هم » يوسف عليه السلام ، فقال الطبري : قالت فرقة : كان مثل «همها » ، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي ؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية ، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالاً للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا ، وهي قد استلقت له ؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف .

وقالت فرقة في «همه » إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها ، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه ، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام ، وفي الحديث :

«إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات »{[6632]} وفي حديث آخر «حسنة » ، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف .

وقالت فرقة : كان «هم » يوسف بضربها ونحو ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف البتة ، والذي أقول في هذه الآية : إن كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ؛ وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك ، لأن العصمة مع النبوة ، وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء ، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد ، والهم بالشيء مرتبتان : فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة ، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي ، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها مالم تنطق به أو تعمل »{[6633]} معناه من الخواطر ، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً ، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر ، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه »{[6634]} .

وقول الله تعالى : { إن بعض الظن إثم }{[6635]} وهذا منتزع من غير موضع من الشرع ، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز .

واختلف في «البرهان » الذي رأى يوسف ، وقيل : نودي . واختلف فيما نودي به ، فقيل ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء . وتفعل فعل السفهاء ؟ وقيل : نودي : يا يوسف ، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى - ناداه بذلك يعقوب - ، وقيل غير هذا مما في معناه ، وقيل : كان «البرهان » كتاباً رآه مكتوباً ، فقيل : في جدار المجلس الذي كان فيه ، وقيل : بين عيني زليخا ، وقيل : في كف من الأرض خرجت دون جسد ؛ واختلف في المكتوب ، فقيل : قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }{[6636]} ، وقيل : قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }{[6637]} وقيل غير هذا . وقيل : كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلاً معه في البيت عاضاً على إبهامه وقيل : على شفته . وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك . وقيل : إن جبريل قال له : لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة ، وقيل : إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقيل : بل كان «البرهان » فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية ، وقيل : بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له : مكانك حتى أستر هذا الصنم - لصنم كان معها في البيت - فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال ؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال : من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء ، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله .

و «البرهان » في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري ، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين .

و { أن } في قوله : { لولا أن رأى } في موضع رفع ، التقدير : لولا رؤيته برهان ربه ، وهذه { لولا } التي يحذف معها الخبر ، تقديره : لفعل أو لارتكب المعصية . وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله : { ولقد همت به } وأن جواب { لولا } في قوله : { وهم بها } وأن المعنى : لولا أن رأى البرهان لهمَّ أي فلم يهم عليه السلام ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف{[6638]} . قال الزجّاج : ولو كان الكلام : ولهمَّ بها لولا ، لكان بعيداً ، فكيف مع سقوط اللام{[6639]} ! .

والكاف من قوله : { كذلك } متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا { كذلك لنصرف }{[6640]} ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير : عصمتنا له كذلك لنصرف .

وقرأ الجمهور «لنصرف » بالنون ، وقرأ الأعمش «ليصرف » بالياء - على الحكاية عن الغائب{[6641]} - ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلِصين » بكسر اللام في كل القرآن ، وكذلك { مخلصاً } في سورة مريم{[6642]} . وقرأ نافع { مخلصاً } [ الزمر : 2-11-14 ، مريم : 51 ] كذلك بكسر اللام ، وقرأ سائر القرآن «المخلَصين » بفتح اللام ، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلَصين » بفتح اللام و «مخلصاً » كذلك في كل القرآن .


[6632]:الحديث رواه البخاري في الرقاق، ومسلم في مواضع كثيرة، والترمذي في تفسير سورة الأعراف، والدارمي في الرقاق، والإمام أحمد في أكثر من موضع من مسنده، ولفظه كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة).
[6633]:الحديث رواه البخاري ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه صحيح.
[6634]:أخرجه الشيخان في الصحيحين، والإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، وأخرجه ابن ماجه عن أبي موسى، ونص الحديث كاملا: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
[6635]:من الآية (12) من سورة (الحجرات).
[6636]:من الآية (33) من سورة (الرعد).
[6637]:الآية (32) من سورة (الإسراء).
[6638]:قال أبو حيان في "البحر المحيط": "ليس كما ذكر، وهو موجود في لسان العرب، قال تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} فقوله: {إن كادت لتبدي به} إما أن يتخرج على أنه الجواب، وإما أن يتخرج على ما نذهب إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن رطبنا على قلبها لكادت تبدي به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة وبخاصة في المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب لأنهم قدروا جواب "لولا" محذوفا ولا يدل عليه دليل لأنهم لم يقدروا لهم بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأن ما قبل الشرط دليل، ولا يحذف شيء بدون دليل".
[6639]:رد عليه أبو حيان أيضا في البحر بأنه كلام لا يصح الالتفات إليه، لأنه يوهم أن قول الله تعالى: {وهم بها} هو جواب "لولا"، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون هو نفس الجواب فاللام ليست بلازمة، لأن جواب "لولا" يجوز أن يأتي – إذا كان بصيغة الماضي – باللام وبغير اللام، تقول: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن قوله تعالى: {وهم بها} هو نفس الجواب لم يبعد. ثم قال: "والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا نقول: إن جواب العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو عباس المبرد، بل نقول: إن جواب "لولا" محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: "أنت ظالم إن فعلت" فإنهم يقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: "أنت ظالم" على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجوب الفعل، وكذلك التقدير هنا: "لولا أن رأى برهان ربه لهم بها"، فكان موجد الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى لهم".
[6640]:يرى الحوفي أن الكاف للتشبيه في موضع نصب، أي: أريناه البرهان كذلك، وقال أبو البقاء: الكاف في موضع رفع، والتقدير: الأمر كذلك، وقال أبو حيان: التقدير: مثل تلك الرؤية نرى براهيننا لنصرف، فالإشارة إلى الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله: {لولا أن رأى برهان ربه}، و [لنصرف] متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف.
[6641]:وهو عائد على الله تعالى.
[6642]:في قوله تعالى في الآية (51): {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا}.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

معنى الهمّ بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته، ما لم يواقع.

فأما ما كان من همّ يوسف بالمرأة وهمها به... عن مجاهد: {وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها}، قال: جلس منها مجلس الرجل من امرأته...

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا، وهو لله نبيّ؟ قيل: إن أهل العلم اختلفوا في ذلك؛

فقال بعضهم: كان ممن ابتلي من الأنبياء بخطيئة، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عزّ وجلّ على وَجَل إذا ذكرها، فيجدّ في طاعته إشفاقا منها، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته.

وقال آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك ليعرّفهم موضع نعمته عليهم، بصفحه عنهم، وتركه عقوبته عليه في الآخرة.

وقال آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله، وترك الإياس من عفوه عنه، إذا تابوا.

وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف، وتأوّلوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفة: فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه، لولا أن يوسف رأى برهان ربه، وكفه ذلك عما همّ به من أذاها، لا أنها ارتدعت من قِبلَ نفسها. قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: {كذلكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ}، قالوا: فالسوء: هو ما كان همّ به من أذاها، وهو غير الفحشاء.

وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به. فتناهى الخبر عنها، ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: وهمّ بها يوسف، لولا أن رأى برهان ربه. كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهمّ بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها، ولكنه رأى برهان ربه، فلم يهمّ بها، كما قيل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَليلاً}.

ويفسد هذين القولين أن العرب لا تقدم جواب «لولا» قبلها، لا تقول:"لقد قمت لولا زيد"، وهي تريد: "لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله.

وقال آخرون منهم: بل قد همّت المرأة بيوسف، وهمّ يوسف بالمرأة، غير أن همهما كان تمثيلاً منهما بين الفعل والترك، لا عزما ولا إرادة، قالوا: ولا حرج في حديث النفس ولا في ذكر القلب إذا لم يكن معهما عزم ولا فعل. وأما البرهان الذي رآه يوسف، فترك من أجله مواقعة الخطيئة، فإن أهل العلم مختلفون فيه؛ فقال بعضهم: نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة... وقال آخرون: البرهان الذي رأى يوسف، فكفّ عن مواقعة الخطيئة من أجله، صورة يعقوب عليهما السلام يتوعدّه...

عن قتادة: {لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه}: رأى آية من آيات ربه، حجزه الله بها عن معصيته، ذُكر لنا أنه مُثّلَ له يعقوب حتى كلمه، فعصمه الله، ونزع كلّ شهوة كانت في مفاصله...

وقال آخرون: بل البرهان الذي رأى يوسف ما أوعد الله عزّ وجلّ على الزنا أهله...

وقال آخرون: بل رأى تمثال الملك...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن همّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من آيات الله، زجرته عن ركوب ما همّ به يوسف من الفاحشة. وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأيّ ذلك من أيّ. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمِه.

وقوله: {كذلكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ}، يقول تعالى ذكره: كما أرينا يوسف برهاننا على الزجر عما همّ به من الفاحشة، كذلك نسبب له في كل ما عرض له من همّ يهمّ به فيما لا يرضاه، ما يزجره ويدفعه عنه، كي نصرف عنه ركوب ما حرّمنا عليه وإتيان الزنا، لنطهره من دنس ذلك.

وقوله: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ}، اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ}، بفتح اللام من «المخلصين»، بتأويل: إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا. وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلِصِينَ}، بكسر اللام، بمعنى: أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا، فلم يشركوا بنا شيئا، ولم يعبدوا شيئا غيرنا.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بهما جماعة كثيرة من القرأة، وهما متفقتا المعنى؛ وذلك أن من أخلصه الله لنفسه فاختاره، فهو مخلص لله التوحيد والعبادة، ومن أخلص توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا، فهو ممن أخلصه الله، فبأيتهما قرأ القارئ، فهو للصواب مصيب.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(-وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أما ما قاله أهل التأويل: إنها أسلمت له (وهم بها) أي حل سراويله، وأمثال هذا، من الخرافات فهذا كله مما لا يحل أن يقال في شيء من ذلك...

والدلالة على فساد ذلك وجوه: أحدها: قوله: (هي راودتني عن نفسي) [الآية: 26] ولو كان منه الإرادة والمراودة لم يكن ليقول ذلك عنها ويبرئ نفسه من ذلك.

والثاني: قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) [الآية: 24] ولو كان شيء مما ذكروا من حل السراويل والجلوس بين رجليها لم يكن السوء مصروفا عنه. والثالث: قوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) [الآية: 52] ولو كان منه ما ذكروا لقد خانه. والرابع: قول النسوة وقولها: (آلان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه) [الآية: 51]. هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه شيء من ذلك. وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا من قليل ولا كثير؛ إذ ليس فيه سوى أن (همت به وهم بها)...

وأصل البرهان الحجة، أي لولا ما رأى من حجة الله، وإلا كان يهم بها، ولكن لا ندري ما تلك الحجة، والله أعلم بذلك...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه... ومنها: خطور الشيء بالبال، وإن لم يعزم عليه؛ كقوله: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "والمعنى أن الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما لما كان الله وليهما... ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا وكذا، أي كاد يفعله... ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القائل فيما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه: هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إلي...

وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (عليه السلام) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه، لأن كل واحد منها يليق بحال... ويمكن أن يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله "لولا ان رأى برهان ربه "مع أن الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لماهم بدفعها أراه الله برهانا على أنه إن أقدم على ما يهم به، أهلكه أهلها وقتلوه، وأنها تدعي عليه المراودة لها على القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه أو ظن القبيح واعتقاده فيه...

ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها، لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك... وإنما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لأن الدليل دل من جهة العقل والشرع على أن الأنبياء لا يجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على أنه لا يجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى "وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه". وقوله حاكيا عنها؟ "الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" وقال: "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" وأجمعت الأمة من المفسرين وأصحاب الأخبار على أنها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة أن يوسف لم يهم بالفاحشة، ولا عزم عليها؛ منها: قوله: "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء"، "وقوله: "إنه من عبادنا المخلصين" ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك...

ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على أن المراد به العزم، وهو أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقُتلت لولا أني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وفي تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان؟ -تكلُّفٌ غيرُ محمودٍ إذ لا سبيل إليه إلا بالخَبَرِ المقطوع به...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} معناه ولقد همت بمخالطته {وَهَمَّ بِهَا} وهمّ بمخالطتها {لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ} جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف؛ لأنّ قوله: {وَهَمَّ بِهَا} يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه لولا أني خفت الله لقتلته...

فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم. وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين...

ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره، كما نُعِيَت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك: {ولقد همت به} أي أوقعت الهم، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها {وهمَّ بها} كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب {لولا أن رءآ} أي بعين قلبه {برهان ربه} الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء، وأن السجن أحب إليه من ذلك، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} [يوسف:25] -الآية، من مطلق الإرادة، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد "لولا "في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص:10] أي لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب "لولا" المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه- نبه على ذلك الإمام أبو حيان، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال: إن هذا قول المحققين من المفسرين، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله، فكأنه قيل: إن هذا التثبيت عظيم، فقيل إشارة إلى أنه لازم له كما هو شأن العصمة: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} أي الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي الزنا وغيره، فكأنه قيل: لِمَ فعل به هذا؟ فقيل {إنه من عبادنا} أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة {المخلصين *} أي هو في عداد الذين هم خير صرف، لا يخالطهم غش...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{وَهَمَّ بِهَا} أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصداً اختيارياً لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد: حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ولقد همت به} أي وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، ومراودة عن نفسها لا مراوِدة، حتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال، ليطئطئون الرؤوس للفقيرات الحسان ربات الجمال، ويبذلون لهن ما يعتزون به من الجاه والمال...

ولكن هذا العبد العبراني الخارق للطبيعة البشرية في حسنه وجماله، وفي جلاله وكماله، وفي إبائه وتألهه، قد عكس القضية، وخرق نظام الطبيعة والعوائد بين الجنسين، فأخرج المرأة من طبع أنوثتها في إدلالها وتمنعها، وهبط بالسيدة المالكة من عزة سيادتها وسلطانها، ودهور الأميرة [الأرستقراطية] من عرش عظمتها وتكبرها، وأذلها لعبدها وخادمها، بما هونه عليها: قرب الوساد، وطول السواد والخلوة من وراء الأستار والأبواب، حتى إنها لتراوده عن نفسه في مخدع دارها، فيصد عنها علوا ونفارا، ثم تصارحه بالدعوة إلى نفسها فيزداد عتوا واستكبارا، معتزا عليها بالديانة والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده وهو سيدها وزوجها وحقه عليها أعظم، إن هذا الاحتقار لا يطاق، ولا علاج لهذا الفاتن المتمرد إلا تذليله بالانتقام، هذا ما ثار في نفس هذه المرأة المفتونة بطبيعة الحال [كما يقال] وشرعت في تنفيذه أو كادت، بأن همت بالبطش به في ثورة غضبها، وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان، وأكثر بما ترويه لنا منه قضايا المحاكم وصحف الأخبار، وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله وهو قوله تعالى:

{وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه، ما هو مصداق قوله تعالى: {والله غالب على أمره} [يوسف: 21] وهو إما النبوة التي تلي الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وشاهده قوله تعالى {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: 174] وإما معجزتها كما قال تعالى لموسى في آيتي العصا واليد {فذانك برهانان من ربك} [القصص: 32] وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا وهي مراقبته لله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه، وفاقا لما قاله أخوه محمد خاتم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فيوسف قد رأى هذا البرهان في نفسه، لا صورة أبيه متمثلة في سقف الدار، ولا صورة سيده العزيز في الجدار، ولا صورة ملك يعظه بآيات من القرآن، وأمثال هذه الصور التي رسمتها أخيلة بعض رواة التفسير المأثور بما لا يدل عليه دليل من اللغة ولا العقل ولا الطبع ولا الشرع، ولم يرو في خبر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح ولا فيما دونها، وما قلناه هو المتبادر من اللغة ووقائع القصة، ومقتضى ما وصف الله به يوسف في هذا السياق وغيره من السورة ولا سيما قوله في أوله {وكذلك نجزي المحسنين} [الأنعام: 84] وما فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان، وقوله في تعليله.

{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} أي كذلك فعلنا وتصرفنا في أمره لنصرف عنه دواعي ما أرادته به أخيرا من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء، بحصانة أو عصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، فلا يصيبه شيء يخرجه من جماعة المحسنين الذين شهدنا له بأنه منهم، إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون وشهادته حق.

{إنه من عبادنا المخلصين} بفتح اللام وهم آباؤهم الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم 83: 45 {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ص: 45-47] وقد قلنا في أول القصة، إن يوسف هو الحلقة الرابعة في سلسلتهم الذهبية، وإن أباه بشره بذلك بعد أن قص عليه رؤياه إذ قال له: {وكذلك يجتبيك ربك} فالاجتباء هو الاصطفاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر [المخلصين] بكسر اللام، والقراءتان متفقتان متلازمتان فهم مخلصون لله في إيمانهم به وحبهم وعبادتهم له، ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم، والجملة تعليل لصرف الله السوء والفحشاء عنه، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء فإنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما، وهمه لأول وهلة بدفع صيالها هم بأمر مشروع وجد مقتضيه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها فلما رأى أمارى وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به، فكان موقفهما موقف المواثبة، والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر هي مثله، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تم به حكمته سبحانه وتعالى فيما أعده له فلجأ إلى الفرار ترجيحا للمانع على المقتضى، وتبعته هي مرجحة للمقتضى على المانع حتى صار جزما، واستبقا باب الدار، وكان من أمرهما ما يأتي بيانه في الآية التالية، وتقدم عليه رأي الجمهور في الهم من الجانبين.

رأي الجمهور في همت به وهم بها وبيان بطلانه:

ذهب الجمهور المخدوعون بالروايات إلى أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا مانع منها، وهم هو بمثل ذلك ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها، ولم يستح بعضهم أن يروي من أخباره اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه وإسرافه في تنفيذه، وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه، ما لا يقع مثله إلا من أوقح الفساق المسرفين المستهترين، الذين طال عليهم عهد استباحة الفواحش وألفتها حتى خلعوا العذار، وتجردوا من جلابيب الحياء، وأمسوا عراة من لباس التقوى وحلل الآداب، كأهل مدنية هذا العصر من الرجال والنساء في مواخير البغاء السرية، وما يقرب منه في حمامات البحر الجهرية، حتى كادوا يعيدون للعام فجور مدينة [بومباي] الرومانية، التي خسف الله بها وأمطر عليها من براكين النار مثلما أمطر على قرية قوم لوط من قبلها، فإن مثل هذا الذي افتروه في قصة هذا النبي الكريم لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة، ولا من سذج الأعراب الذين لم تغلبهم سورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وإيمانهم وحيائهم من نظر ربهم إليهم، فضلا عن نبي عصمه الله ووصفه بما وصف وشهد له بما شهد.

وقد بلغ ببعضهم [كالسدي] الجهل بالدين والوقاحة وقلة الأدب أن يزعموا أن يوسف عليه السلام لم ير برهانا واحدا بل رأى عدة براهين من رؤية والده متمثلا له منكرا عليه، وتكرار وعظه له، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأشد زواجر القرآن بآيات من سوره، فلم تنهه عن غيّه، حتى كان أن خرجت شهوته من أظافره، ومعنى هذا أنه لم يكف إلا عجزا عن الإمضاء، أفبهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء، وكان من عباد الله الملخصين، وأنبيائه المصطفين المجتبين الأخيار؟

ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية الحمقاء، حماية لعقيدة عصمة الأنبياء، فإنه لم يكن يسلم أحد من تأثير بعضها في أنفسهم، وتسليمهم لهم أن الهم من الجانبين كان بمعنى العزم على الفاحشة، إلا من خالف قواعد اللغة فقال إن قوله تعالى: {وهمّ بها} جواب لقوله {لولا أن رأى برهان ربه} ومن قال إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله، فهو على هذين القولين لم يهم بشيء، وهو خلاف المتبادر من العبارة أو ظاهرها، وتأوله بعضهم بأن همه بالفاحشة بمقتضى الداعية الفطرية لا ينافي العصمة وإنما ينافيها طاعتها بدليل ما صح في الحديث أن من هم بسيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه، وأن امتناعه عنها بترجيح داعية الإيمان وطاعة الله تعالى مع طغيانها وإلحاحها الطبيعي عليه أدل على الإيمان والطاعة من كونه لم يفعلها كراهة لها وعزوفا عنها لقبحها، ولهم تأويلات من هذا ولقد كانوا لولا تأثير الرواية في غنى عنها.

والتأويل الأخير أوله مقبول وآخره مردود، فههنا مرتبتان إحداهما الكف عن المعصية جهادا للنفس وكبحا لها خوفا من الله تعالى، وهي مرتبة الصالحين الأبرار، ومرتبة الكراهة لها والاشمئزاز منها حياء من الله ومراقبة له واستغراقا في شهوده، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار، الذين إذا عرضت لهم الشهوة المستلذة بالطبع، بالصورة المحرمة في الشرع، عارضها من وجدان الإيمان، وتجلي الرحمان، ما تغلب به روحانيتهم الملكية، على طبيعتهم الحيوانية، وهذا مما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم، فكيف بمن يرون برهان ربهم بأعين قلوبهم، وينعكس نوره عن بصائرهم فيلوح لأبصارهم، كما أشرنا إليه في تفسيره آنفا؟

ولهذه المرتبة درجات منها فقد الشهوة الطبيعية في هذه الحال، أو فقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها، ولا عجب فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانية تتنازع فيغلب أقواها أضعفها... وتوجيه النفس إلى الشيء أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق الحكماء والصوفية، ويسمي هؤلاء سالك طريق الحق مريدا، والواصل إلى غايته مرادا، أي مجتبى مختارا، وهو لا يكون على كماله إلا لأصحاب الإيمان اليقيني الوجداني، ومن ذاق عرف، ومن حرم انحرف...

ردّ قول الجمهور في تفسير همها وهمه عليه السلام:

فأنا أرد على جميع من فسروا هم المرأة بغير ما اخترته لا همه وحده، وأقول لولا الغرور بالروايات الباطلة لم يخطر لأحد منهم غيره، أرد عليهم بعبارة القرآن في مدلولها اللغوي فهو حجة عليهم فأقول:

أجمع أهل اللغة على أن الهم إنما يكون بالأعمال، لا بالشخوص والأعيان وتحقيق معناه أنه مقاربة فعل تعارض فيه المانع والمقتضي فلم يقع لرجحان المانع، وهو الموافق لقول علماء الأصول في التعارض الأعم، ولكن رجحان المانع هنا قد يكون بإرادة صاحب الهم ومنه هم يوسف، وقد يكون من غيره ومنه هم هذه المرأة: كان همهما واحدا وهو البطش بالضرب أو ما في معناه، وكان المانع منه إرادته هو وعجزها هي بهربه، وهاك الشواهد على القسمين.

حكى الله عن المشركين في سورتي الأنفال والتوبة أنهم {هموا بإخراج الرسول} [التوبة: 13] صلى الله عليه وسلم من بلده مكة، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم خافوا أن يستجيب له غيرهم من العرب فيقوى أمره فرجحوا المانع بإرادتهم، وحكى عن المنافقين أنهم {هموا بما لم ينالوا} إذ حاولوا أن يشردوا به بعيره في العقبة منصرفه من غزوة تبوك، فلم ينالوا مرادهم عجزا منهم وحفظا من ربه له صلى الله عليه وسلم وفي معناه قوله تعالى له {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} [النساء: 113] ولكنه قدم هنا لولا فكان دليلا على أنهم فكروا في ذلك وما قاربوا وقال في بعض المؤمنين {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122] أي تتركا المضي مع الرسول للقتال يوم أحد جبنا وإتباعا لعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين، ولكن غلب عليهما داعي الإيمان فلم تفشلا وهو المعبر عنه بقوله تعالى: {والله وليهما} فرجحتا المانع من الفشل بالمقتضي للجهاد.

وفي المسند والصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يأمر رجلا يصلي بالناس ثم يأمر من يحرق على المتخلفين عن صلاة الجمعة بيوتهم- وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم) يعني صلى الله عليه وسلم إنهم يستحقون هذا حتى كاد يفعله ولكنه امتنع ترجيحا للمانع على المقتضى.

إذا علم هذا فمن الجلي أنه لا يصح تفسير [ولقد همت به] بهذا المعنى الذي أثبتناه بشواهد الكتاب والسنة إلا بما قررناه، وأن ما قاله الجمهور باطل لمخالفته له، بل للغة القرآن وهدايته، وإنما خدعتهم به الروايات الباطلة، وبيانه من وجوه:

أولها: أن الهم لا يكون إلا بفعل الهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه، وهذا التمكين هو الذي يثبت به دخول الزوجية الذي تستحق فيه المرأة النفقة من زوجها كما هو مقرر في الفقه.

ثانيها: أن يوسف عليه السلام لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمي قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها، فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته أيضا.

ثالثها: لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: "ولقد هم بها وهمت به "لأن الأول هو المقدم بالطبع والوضع وهو الهم الحقيقي، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.

رابعها: أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا إنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، وهو الذي يصح فيما حققناه من إرادة تأديبه بالضرب على أهون تقدير، فهذا هو المتبادر من نص اللغة ومن السياق وأقربه قوله عز وجل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته:

(وقالت: هيت لك).

(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)!

لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن -أي نعم من القرآن!- تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره.. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع!

وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس، ثم تجلى له برهان ربه فترك.

وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة، وهم هو برد الاعتداء؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر.. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.

أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما.

الذي خطر لي أن قوله تعالى:

(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه).

هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة.. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا.

هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي.

(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين)..