ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء :
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ) . .
فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام . هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة ، واستقامت حياتهم على منهج . وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل ، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام . وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه .
ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - من شعراء الأنصار ، ومنهم عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جاهليتهما ، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال لحسان : " اهجهم - أو قال هاجهم - وجبريل معك " . . وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه الإمام أحمد ]
والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها . وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها ، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام .
وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ؛ ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله . . ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا . وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح ، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلاميفي صميمه . وإن لحظة إشراق واتصال بالله ، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله ، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام .
ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها ، وللعلاقات والروابط فيها . فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام .
وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل :
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . .
السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم ، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب . كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون .
تنتهي بهذا التهديد المخيف . الذي يلخص موضوع السورة . وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب ؛ يتمثل في صور شتى ، يتمثلها الخيال ويتوقعها . وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا .
وقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } : قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد{[21942]} بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن أبي الحسن سالم البَرّاد - مولى تميم الداري - قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } ، جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : " أنتم " ، { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قال : " أنتم " ، { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال : " أنتم " .
رواه ابن أبي حاتم . وابن جرير ، من رواية ابن إسحاق{[21943]} .
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي الحسن مولى بني نوفل ؛ أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } يبكيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرؤها عليهما : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، قال : " أنتم " {[21944]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة{[21945]} حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن عروة قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } إلى قوله : { يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، قد علم الله أني منهم . فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى قوله : { ينقلبون } .
وهكذا قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وغير واحد أن هذا استثناء مما تقدم . ولا شك أنه استثناء ، ولكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية [ في ]{[21946]} شعراء الأنصار ؟ في ذلك نظر ، ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها ، والله أعلم ، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه مَنْ كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ، ورجع وأقلع ، وعمل صالحًا ، وذكر الله كثيرًا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كذب{[21947]} بذمه ، كما قال عبد الله بن الزبَعْرَى حين أسلم :
يَا رَسُولَ المَليك ، إنّ لسَاني *** رَاتقٌ مَا فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أجَاري الشَّيْطانَ في سَنن الغَ *** يِّ وَمَن مَالَ مَيْلَه مَثْبُورٌ
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه ، وأكثرهم له هجوًا ، فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان يهجوه ، ويتولاه بعدما كان قد عاداه . وهكذا روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس : أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهن قال : " نعم " . قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك . قال : " نعم " . قال : وتُؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين . قال : " نعم " . وذكر الثلاثة{[21948]} .
ولهذا قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قيل : معناه : ذكروا الله كثيرًا في كلامهم . وقيل : في شعرهم ، وكلاهما صحيح مُكَفّر لما سبق .
وقوله : { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . وهذا كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجهم - أو قال : هاجهم - وجبريل معك " {[21949]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ، عز وجل ، قد أنزل في الشعّر ما أنزل ، فقال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل " {[21950]} .
وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " {[21951]} .
وقال قتادة بن دِعَامَة في قوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } يعني : من الشعراء وغيرهم .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة ، قال : حضرت الحسن وَمُرَّ عليه بجنازة نصراني ، فقال الحسن : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال عبد الله بن رَبَاح ، عن صفوان بن مُحْرز : أنه كان إذا قرأ هذه الآية - بكى حتى أقول : قد اندق قَضِيب زَوره - { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال ابن وهب : أخبرني{[21952]} ابن سُرَيج الإسكندراني ، عن بعض المشيخة : أنهم كانوا بأرض الروم ، فبينما هم ليلة على نار يشتوون{[21953]} عليها - أو : يصطلون - إذا بركاب{[21954]} قد أقبلوا ، فقاموا إليهم ، فإذا فضالة بن عبُيد فيهم ، فأنزلوه فجلس معهم - قال : وصاحب لنا قائم يصلي - قال حتى مَرّ بهذه الآية : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت .
وقيل : المراد بهم أهل مكة . وقيل : الذين ظلموا من المشركين . والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم ، كما قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن زكريا بن يحيى الواسطي : حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد{[21955]} النهدي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجير{[21956]} حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كتب أبي وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قُحَافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهي الفاجر ، ويَصدُق الكاذب : إني استخلفت عليكم عُمَر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن يَجُر ويبدل فلا أعلم الغيب ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين ، و كان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان " قل وروح القدس معك " . وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة السلام قال له " اهجوا فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } تهديد شديد لما في " سيعلم " من الوعيد البليغ وفي " الذين ظلموا " من الإطلاق والتعميم ، وفي " أي منقلب ينقلبون " أي بعد الموت من الإيهام والتهويل ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد إليه ، وقرىء " أي منفلت ينفلتون " من الانفلات وهو النجاة والمعنى : أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات .
{ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا }
وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ . . . من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم . وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام .
ومعنى : { وذكروا الله كثيراً } إي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر . { وانتصروا من بعد ما ظلموا } وهم مَن أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصارِ للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين . وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رَواحة ، وحسانَ بن ثابت ومن أسلم بعدُ من العرب مثل لَبيد ، وكعب بن زهير ، وسُحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السُّورة مدنيّاً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة .
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه . وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، وإلى الحالة المأذونة قوله : { وعملوا الصالحات } . وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابُه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة ، على أنه أذِن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له : « كلامك أشد عليهم من وقع النبل . . » وقال له : « قل ومعك روح القدس » . وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } في سورة يس ( 69 ) . وأجاز عليه كما أجاز كعبَ بن زهير فخلع عليه بردته ، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمناً .
وقال أبو هريرة : سمعت رسول الله يقول على المنبر : أصدَقُ كلمةٍ ، أو أشْعَر كلمة قالتها العرب كلمةُ لبيد :
ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال : كاد أميةُ أن يُسلم ، وأمر حسّاناً بهجاء المشركين وقال له : قُل ومعك رُوح القدس . وقال لكعبِ بن مالك : لكلامُك أشد عليهم من وقْع النبْل .
روى أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » بسنده إلى خُريم بن أوس بن حارثة أنه قال : هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرَفَه من تبوك فسمعت العباس قال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . فقال : قُل لا يفضُض الله فاك . فقال العباس :
من قبلِها طبتَ في الظلال وفي *** مُستَوْدَع حيثُ يخصف الوَرق
الأبيات السبعة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا يفضض الله فاك "
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدُ الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول :
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله *** اليومَ نضربكم على تنزيله
ضَرباً يُزيل الهامَ عن مقيله *** ويُذهل الخليلَ عن خليله
فقال له عُمر : يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " خَلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نَضْح النبْل " .
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما تقول في الشعر ؟ قال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل " .
ولعلي بن أبي طالب شعر كثير ، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه .
وقد بين القرطبي في « تفسيره » في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر . وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب « دلائل الإعجاز » .
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ، ولم يزل العلماء يعنَون بشعر العَرب ومَن بعدهم ، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن .
ومعنى : { من بعد ما ظلموا } أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء .
{ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَىَّ مُنقَلَبٍ } .
ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم . وجُعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك ، وللاعتداء على حقوق الناس . وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده ، والواو اعتراضية للاستئناف .
وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب ، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم ، ومن الإبهام في قوله : { أي منقلب ينقلبون } إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء .
والمنقلب : مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآلُ ، لأن الانقلاب هو الرجوع . وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده . واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه . قال في « الكشاف » : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها .