ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .
( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة [ الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ] . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير !
أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس ؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها . . وحول مقدار ما تدفع به الضرورة ؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .
ولما امتن تعالى عليهم برزقه ، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع .
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] على ما سيأتي ، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله ، عليه السلام ، في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا : " أحل لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال " وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة{[3058]} .
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لأنه جزء منها . وقال مالك في رواية : هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة ، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا : يخالط اللبن منها يسير ، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع . وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : " الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " {[3059]} .
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه ، ويدخُلُ شَحْمه في حكم لحمه{[3060]} إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ، أو بطريق القياس على رأي . و[ كذلك ]{[3061]} حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله ، وهو ما ذبح على غير اسمه{[3062]} تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . [ وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري : أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم ، وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين ، فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم ]{[3063]} . ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها ، عند فقد غيرها من الأطعمة ، فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : في غير بغي ولا عدوان ، وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قاطعًا للسبيل ، أو مفارقًا للأئمة ، أو خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة ، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له ، وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد بن جبير .
وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان : غير باغ : يعني غير مستحله . وقال السدي : غير باغ يبتغي فيه شهوته ، وقال عطاء الخراساني في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } [ قال ]{[3064]} لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ، ولا يأكل إلا العُلْقَة ، ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه [ وهو قوله : { وَلا عَادٍ } يقول : لا يعدو به الحلال ]{[3065]} .
وعن ابن عباس : لا يشبع منها . وفسره السدي بالعدوان . وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } قال : { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله . وقال قتادة : فمن اضطر غير باغ ولا عاد في{[3066]} أكله : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة .
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أكره على ذلك بغير اختياره .
مسألة : ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى ، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف - كذا قال - ثم قال : وإذا أكله ، والحالة هذه ، هل يضمنه أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية : سمعت عباد بن العنزي{[3067]} قال : أصابتنا عامًا مخمصة ، فأتيت المدينة{[3068]} . فأتيت حائطا ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا ، ولا علمته إذ كان جاهلا " {[3069]} . فأمره فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة : من ذلك حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق ، فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة{[3070]} فلا شيء عليه " {[3071]} الحديث .
وقال مقاتل بن حيان في قوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد{[3072]} على ثلاث لقم .
وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام . رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار .
وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : من{[3073]} اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب ، ثم مات دخل النار .
[ وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة . قال أبو الحسن الطبري - المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا ؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك ]{[3074]} .
{ إنما حرم عليكم الميتة } أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . { وما أهل به لغير الله } أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون . { ولا عاد } سد الرمق ، أو الجوعة . وقيل ؛ غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . { فلا إثم عليه } في تناوله . { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )
وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم } { إنما } هنا حاصرة ، و { الميتة } نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة » بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت » و «ميْت » لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميْت » بالتخفيف .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر( {[1554]} ) : [ الخفيف ]
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ . . . إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير { وما هو بميت }( {[1555]} ) [ إبراهيم : 17 ] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر( {[1556]} ) : [ الوافر ]
إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ . . . فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِىءْ بِزَادِ
فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي و { إن } عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حُرِّمَ » على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت { ما } كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر .
ولفظ { الميتة } عموم والمعنى مخصص( {[1557]} ) لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم( {[1558]} ) ، و { الميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه( {[1559]} ) كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب( {[1560]} ) : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل .
و { الدم } يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي( {[1561]} ) أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها( {[1562]} ) ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه( {[1563]} ) ، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيراً .
وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده( {[1564]} ) عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية .
و { ما أُهِلّ به لغير الله } ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و { أهل } معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم( {[1565]} ) ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس( {[1566]} ) ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها( {[1567]} ) عرساً فذبحت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة .
واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع( {[1568]} ) ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى { فمن اضطر } الآية ، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال { فمن اضطِر } بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء ، وقرأ ابن محيصن ، «فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى { اضطر } : ضمه عدم وغرث( {[1569]} ) ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات ، و { غير باغ } في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم( {[1570]} ) ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي { غير باغ } أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، { ولا عاد } أي متزود( {[1571]} ) ، وقال مالك رحمه الله : «يأكل المضطر شبعه » ، وفي الموطأ - وهو لكثير من العلماء : أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في { عاد } أن معناه عايد( {[1572]} ) ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها .
ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزاً ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل .
ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم ، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه( {[1573]} ) .