في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

27

وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة :

( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا - نكالا من الله - والله عزيز حكيم . فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، إن الله غفور رحيم . ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .

إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام - على اختلاف عقائدهم - ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية . وضمانات التربية والتقويم . وضمانات العدالة في التوزيع . وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه . . ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة ، والاعتداء على الملكية الفردية ، والاعتداء على أمن الجماعة . . ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت . .

ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال . .

إن النظام الإسلامي كل متكامل ، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته . كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ؛ ويعمل به جملة . أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام ، أو مبدأ من مبادئه ، في ظل نظام ليس كله إسلاميا ، فلا جدوى له ؛ ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام . لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق . الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة . .

هذا بصفة عامة . أما بالنسبة لموضوع السرقة ، فالأمر لا يختلف . .

إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ، في الحياة . وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة . . من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه ، ويجد فيه السكن والراحة . . من حق كل فرد على الجماعة - وعلى الدولة النائبة عن الجماعة - أن يحصل على هذه الضروريات . . أولا عن طريق العمل - ما دام قادرا على العمل - وعلى الجماعة - والدولة النائبة عن الجماعة - أن تعلمه كيف يعمل ، وأن تيسر له العمل ، وأداة العمل . . فإذا تعطل لعدم وجود العمل ، أو أداته ، أو لعدم قدرته على العمل ، جزئيا أو كليا ، وقتيا أو دائما . أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته . فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه : أولا : من النفقة التي تفرض له شرعاعلى القادرين في أسرته . وثانيا على القادرين من أهل محلته . وثالثا : من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة . فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام ، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ؛ بحيث لا تتجاوز هذه الحدود ، ولا تتوسع في غير ضرورة . ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال . .

والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال . . ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين . وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية ؛ ولا يدعهم محرومين . والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها . . فإذا لم يوجد العمل ، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم ، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة . .

وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام ؟ إنه لا يسرق لسد حاجة . إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل . والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام . ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها . ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال .

وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع ، كسب ماله من حلال ، لا من ربا ، ولا من غش ، ولا من احتكار ، ولا من أكل أجور العمال ، ثم أخرج زكاته ، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة . . من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص ، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات .

فإذا سرق السارق بعد ذلك كله . . إذا سرق وهو مكفي الحاجة ، متبين حرمة الجريمة ، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين ، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام . . إذا سرق في مثل هذه الأحوال . فإنه لا يسرق وله عذر . ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة .

فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها ، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات . لذلك لم يقطع عمر - رضي الله عنه - في عام الرمادة ، حينما عمت المجاعة . ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ؛ عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة . فقد أمر بقطعهم ؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم ، درا عنهم الحد ؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له . .

وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام ، في ظل نظامه المتكامل ؛ الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة . . والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة . والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء . .

وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة . .

السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز ، خفية . . فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما . . والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار . . أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر . . ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه ، ويخرج به عنه . . فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه . والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرزا منه . ولا على المستعير إذا جحد العارية . ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين . ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته . . وهكذا . . ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير . . فلا قطعحين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير . والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك . . والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع ، وإنما هي التعزيز . . [ والتعزيز عقوبة دون الحد ، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة ] .

والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ . فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع . . ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة .

والشبهه تدرأ الحد . . فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد . وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد . ورجوع المعترف في اعترافه - إذا لم يكن هناك شهود - شبهة تدرأ الحد . ونكول الشهود شبهة . . وهكذا . .

ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة . فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل - حتى بعد إحرازه - كسرقة الماء بعد إحرازه ، وسرقة الصيد بعد صيده ، لأن كليهما مباح الأصل . وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه . والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز . . بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة . ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد ، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه . ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة .

ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال ، فتطلب في كتب الفقة ؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات . . ورسول الله [ ص ] يقول : " ادرأوا الحدود بالشبهات " وعمر ابن الخطاب يقول : " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات " . .

ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة ؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد ، في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة . .

وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره . فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام . وهو لا يكتفي بثمرة عمله ، فيطمع في ثمرة عمل غيره . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . أو ليأمن على مستقبله . فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء . . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع . لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء . وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل .

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود للجريمة مرة ثانية .

ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية . وإنه لعمري خير أساس قامت عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن . . .

" وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة . وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم . والسرقة على الخصوص . والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة . لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس ، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب . وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته ، من طريق الحلال والحرام على السواء ! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف ، فيأمنوا جانبه ، ويتعاونوا معه .

فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد ؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً ، ولم تفته منفعة ذات بال .

" أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل ، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً ؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال ، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم - لا السارق وحده - أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة .

" وأعجب بعد ذلك ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر . كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته ، وأن نشجعه على السير في غوايته ، وأن نعيش في خوف واضطراب ، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص !

" ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون : إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية ، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق ؛ وأن ننسى طبائع البشر ، ونتجاهل تجارب الأمم ؛ وأن نلغي عقولنا ، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا ، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلاً إلا التهويل والتضليل !

" وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية ، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء ، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء . لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس . وطبائع البشر وتجارب الأمم ، ومنطق العقول والأشياء . وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية . أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء .

" إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته . فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد ، وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة ، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم ، وتأمين المجتمع . و ما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة ، فهي أفضل العقوبات وأعدلها " .

" ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع ، لأنهم يرونها - كما يقولون - عقوبة موسومة بالقسوة . وتلك حجتهم الأولى والأخيرة . وهي حجة داحضة . فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف ، بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا .

فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم "

والله - سبحانه - وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة :

( فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله . . )

فهي تنكيل من الله رادع . والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها ، لأنه يكفه عنها ، ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة . . ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس ، إلا وفي قلبه عمى ، وفي روحه أنطماس ! والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ؛ لأن المجتمع بنظامه ، والعقوبة بشدتها ، والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ؛ أن ابن مسعود كان يقرؤها : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " . وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر . وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح . ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلا يقال له : " دويك " مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .

وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرًا ؛ لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا ، بل أخذوا بمجرد السرقة .

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن ، عن نَجْدَة الحَنَفِي قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أخاص أم عام ؟

فقال : بل عام .

وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم .

وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَعَن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . {[9796]} وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ ، فعند الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في الصحيحين . {[9797]}

قال مالك ، رحمه الله : وقطع عثمان ، رضي الله عنه ، في أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك . وهذا الأثر عن عثمان ، رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن : أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تُقَوم ، فَقُومَت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار ، فقطع عثمان يده . {[9798]}

قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع{[9799]} يشتهر ، ولم{[9800]} ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السُّكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية . وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم .

وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا . والحجة{[9801]} في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن عَمْرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تقطع يد السارق{[9802]} في ربع دينار فصاعدا " . {[9803]}

ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عَمْرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " . {[9804]}

قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة{[9805]} دراهم ، لا ينافي هذا ؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهمًا ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق .

ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم . وبه يقول عمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري ، رحمهم الله .

وذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي ، فمن سرق واحدًا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر ، وبحديث عائشة ، رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[9806]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " {[9807]} وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهمًا . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل{[9808]} لعائشة : ما ثمن المجَن ؟ قالت : ربع دينار . {[9809]}

فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .

وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزُفَر ، وكذا سفيان الثوري ، رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نُمَير وعبد الأعلى{[9810]} وعن{[9811]} محمد بن إسحاق ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . {[9812]}

ثم قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المِجَن " . وكان ثمن المجن عشرة دراهم . {[9813]}

قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات .

وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما ، يحكى هذا عن علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم النَّخَِعي ، وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى .

وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهمًا . وينقل هذا عن سعيد بن جبير ، رحمه الله .

وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يَسْرقُ البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة :

أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر ؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ .

والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .

والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .

وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :

يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ{[9814]}*** ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار

تَناقض ما لنا إلا السكوت له*** وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ{[9815]}

ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه{[9816]} الفقهاء فهرب منهم . وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي ، رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت . ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[9817]} { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالا مِنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه { حِكِيمٌ } أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره .


[9796]:صحيح البخاري برقم (6799) وصحيح مسلم برقم (1687).
[9797]:صحيح البخاري برقم (6797) وصحيح مسلم برقم (1686).
[9798]:الموطأ (2/832).
[9799]:في ر: "الصنع".
[9800]:في أ: "فلم".
[9801]:في ر: "أو الحجة".
[9802]:في ر: "يقطع السارق".
[9803]:صحيح البخاري برقم (6789) وصحيح مسلم برقم (1684).
[9804]:صحيح مسلم (1684).
[9805]:في أ: "بثلاثة".
[9806]:زيادة من أ.
[9807]:المسند (6/80).
[9808]:في أ: "فقيل".
[9809]:سنن النسائي (8/80).
[9810]:في أ: "بن عبد الأعلى" وهو خطأ.
[9811]:في أ: "حدثنا".
[9812]:المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/191) من طريق محمد بن إسحاق به.
[9813]:المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/190) من طريق محمد بن إسحاق به، والحديث مضطرب، اختلف فيه على محمد بن إسحاق - كما ترى - وروي من أوجه أخرى كثيرة
[9814]:في ر، أ: "فديت".
[9815]:رواهما الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/30).
[9816]:في أ: "فطلبه".
[9817]:زيادة من ر، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما ، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى : والذي سرق والتي سرقت ، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل . والسرقة : أخذ مال الغير في خفية ، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام " القطع في ربع دينار فصاعدا " وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح ، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهما ، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكم } اكتفاء بتثنية المضاف إليه ، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه . { جزاء بما كسبا نكالا من الله } منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا { والله عزيز حكيم } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

قرأ جمهور القراء «والسارقُ والسارقةُ » بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارقَ والسارقَةَ » بالنصب ، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم ، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله : { الزانية والزاني }{[4532]} وفي قول الله : { واللذان يأتيانها منكم }{[4533]} هو على معنى فيما فرض عليكم . والفاء في قوله تعالى : { فاقطعوا } ردت المستقل غير مستقل ، لأن قوله فيما«فرض عليكم السارق » جملة حقها وظاهرها الاستقلال ، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله : { فاقطعوا } فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل ، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين ، اختار أن يكون «والسارقُ والسارقةُ » رفعاً بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك ، زيداً فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده ، قال الزجاج وهذا القول هو المختار .

قال القاضي أبو محمد : أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم » ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسُّرَّق والسُّرَّقة » هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو .

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق » بغير ألف وافقت في الخط هذه ، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه ، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره ، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ، ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق ، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه ، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن ، منها الإخراج من حرز ، ومنه القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه ، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة ، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه ، فلفظ { السارق } في الآية عموم معناه الخصوص ، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور ، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القطع في ربع دينار فصاعداً »{[4534]} وقال مالك رحمه الله : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها ، روي هذا عن عمر ، وبه قال سليمان بن يسار وابن ابي ليلى وابن شبرمة ، ومنه قول أنس بن مالك : قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خسمة دراهم .

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري : لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم ، وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهم فما فوقه{[4535]} ، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال : تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية . وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس ، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع ، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياساً على المحارب ، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها ، وقوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولاً فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد ، فكأنه قال اقطعوا أَيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين . قال الزجاج عن بعض النحويين ، إنما جعل تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعاً كقوله : { صنعت قلوبكما }{[4536]} لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه . فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين .

قال القاضي أبو محمد : كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة .

واختلف العلماء في ترتيب القطع ، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل : تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس .

وروي عن عطاء بن أبي رباح : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بظاهر الآية ، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد . ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من الفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم . وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } نصبه على المصدر ، وقال الزجاج مفعول من أجله . وكذلك : { نكالاً من الله } والنكال العذاب ، والنكل القيد ، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الأعراب حكاية .


[4532]:- من قوله تعالى في الآية (2) من سورة (النور): {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}.
[4533]:- من قوله تعالى في الآية (16) من سورة (النساء): {والذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما}
[4534]:- أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا).
[4535]:- في بعض النسخ: "في درهمين فما فوقهما"، والصواب ما في النسخة التي اعتمدنا ما فيها لموافقته لما في القرطبي والبحر.
[4536]:- من قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} في الآية (4) من سورة (التحريم).