ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :
( من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأولئك هم الغافلون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون )
ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .
والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة .
واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به . وقد روى أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر .
روى ابن جرير - بإسناده - عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي [ ص ] فقال النبي [ ص ] " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي [ ص ] : " إن عادوا فعد " . . فكانت رخصة في مثل هذه الحال .
وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان . كذلك صنعت سمية أم ياسر ، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر .
وقد كان بلال - رضوان الله عليه - يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد . أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع ! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي - أحد الصحابة رضوان الله عليهم - أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [ ص ] طرفة عين ما فعلت . فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك . قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر . وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح . وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها . فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه . فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .
وفي رواية أنه سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك . فقال : تطلق معي جميع أسارى المسليمن . فقال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا ابدأ . فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .
ذلك أن العقيدة أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن ، وعند الله . وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم .
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به : أنه قد غَضب عليه ، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا{[16707]} على ما أقدموا عليه من الردة لأجل{[16708]} الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فلا{[16709]} يعقلون بها شيئا ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
اختلف أهل العربية في العامل في «مَن » من قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، ومن قوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله : { فَعَلَيْهِمْ } ، خبرا لقوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، وقوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدَ إيمانِهِ } ، فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدلّ على المعنى . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، مرفوع بالردّ على «الذين » في قوله : { إنّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ } ، ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان . وهذا قول لا وجه له ، وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه ولم يؤمنوا قطّ ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان والتنزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : { وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوا إنمَا أنْتَ مُفْترٍ ، بَلْ أكْثرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله ، وأخبر أنهم أحقّ بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنما يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ } . ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ؛ لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائلٌ فبين فساده ، مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .
والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع ل «من » الأولى والثانية ، قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ } ، والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .
وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ . . . } إلى آخر الآية . وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش والذي قال ، فأنزل الله تعالى ذكره عذره : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ . . . } إلى قوله : { ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ } ، قال : ذُكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل الله تعالى ذكره : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، { فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ ؟ » قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فإنْ عادُوا فَعُدْ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانَ } قال : نزلت في عمار بن ياسر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا .
فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر عن ابن عباس .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإيمَانِ } ، فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم . فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .
{ من كفر بالله من بعد إيمانه } ، بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض ، أو من { أولئك } أو من { الكاذبون } ، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله : { فعليهم غضب } ، ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون " من " شرطية محذوفة الجواب دل عليه قوله : { إلا من أُكره } ، على الافتراء أو كلمة الكفر ، استثناء متصل ؛ لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان . { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، لم تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب . { ولكن من شرح بالكفر صدرا } ، اعتقده وطاب به نفسا . { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ، إذ لا أعظم من جرمه . روي ( أن قريشا أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسمية على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين ووجيء بحربة في قبلها وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتلوا ياسرا ، وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال : كلا إن عماراً ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لك ! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه ، لما روي ( أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فما تقول فيّ ؟ فقال : أنت أيضا فخلاه ، وقال للآخر ما تقول في محمد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال فما تقول في ؟ قال : أنا أصم ، فأعاد جوابه فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له ) .
و { من } ، في قوله : { من كفر } ، بدل من قوله : { هم الكاذبون } ، ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه ؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله ، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يتأكد بما روي من أن قوله : { وأولئك هم الكاذبون } ، يراد به عبد الله بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة وأشباههما ، ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد ، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان ، أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة ، وهم بلال وعمار وسمية أمه ، وخباب وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذبونهم ليرتدوا ، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده ، ثم ابتدأ الإخبار : «أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم » ، وهذا الضمير على معنى " من " ، لا على لفظها .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والظاهر من هذه الآية أنها مكية . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من كفر } ، ابتداء ، وقوله : { من شرح } ، تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه ، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب { ولكن } ، وقوله : { فعليهم } ، خبر { من } الأولى والثانية ؛ إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأن الإخبار في قوله : { من كفر } ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر{[7419]} ، و { صدراً } ، نصب على التمييز ، وقوله : { شرح بالكفر صدراً } ، معناه : انبسط إلى الكفر باختياره ، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامع به من القول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئناً بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك ، فإنه لا يضرك ، وإن عادوا فعد{[7420]} .
قال القاضي أبو محمد : ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه ؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قوْلاً واحداً فيما أحفظ ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف ، فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية ، وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه ، وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله .
قال القاضي أبو محمد : وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه ، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل ، فكيف لهذا ، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به ، فقصر الرحمة على القول ، ولم يذكر الفعل .
قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بحجة ؛ لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه ، فأما الإكراه على البيع والأيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان ، وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل ، فلا يلزم المكره شيء من ذلك ، قاله مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك ، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول ، كالعتق والطلاق ، فجعل فيها التقية ، وقال : لا تقية فيما كان فعلاً ، كشرب الخمر والفطر في رمضان ، ولا يحل فعلها لمكره ، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، قال مطرف : ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب ، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان ، وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه ، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال ، هو لها ضامن كالغاصب ، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم ، قال مطرف : وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه ، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه ، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد ، كالزنا والقتل أو نحوه ، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم : لا يفعل أحد ذلك ، وإن قتل إن لم يفعله ، فإن فعل فهو آثم ، ويلزمه الحد والقود ، قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنفاذه لما يتوعد .
قال القاضي أبو محمد : ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين ، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه ، فقد يكون الضرب إكراهاً في شيء دون شيء ، فلهذه النوازل فقه الحال ، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة ، قال ابن الماجشون : وسواء حلف فيما هو لله طاعة ، أو فيما هو لله معصية ، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية ، فاليمين فيه ساقطة ، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمراً أو لا يفسق أو لا يغش في عمله ، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديباً له ، فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب ، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مطرف : لا تقية في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله ، وقال ابن الماجشون : لا يحنث ، وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه ، وقال ابن القاسم بقول مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب ، قال مطرف وابن الماجشون : وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه ، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وقال أيضاً ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب ، وإنما حلف خوفاً من ضربه أو قتله أو أخذ ماله ، فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث ، وإذا اتهم الوالي أحداً بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي ، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية ، فالتقية في هذا ، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ، ويكون نظر الوالي فيه صواباً فلا تقية في اليمين ، وهو حانث ، قاله مالك وابن الماجشون .