في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

90

ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :

( من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأولئك هم الغافلون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون )

ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .

والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة .

واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به . وقد روى أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر .

روى ابن جرير - بإسناده - عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي [ ص ] فقال النبي [ ص ] " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي [ ص ] : " إن عادوا فعد " . . فكانت رخصة في مثل هذه الحال .

وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان . كذلك صنعت سمية أم ياسر ، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر .

وقد كان بلال - رضوان الله عليه - يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد . أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع ! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي - أحد الصحابة رضوان الله عليهم - أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [ ص ] طرفة عين ما فعلت . فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك . قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر . وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح . وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها . فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه . فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .

وفي رواية أنه سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك . فقال : تطلق معي جميع أسارى المسليمن . فقال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا ابدأ . فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .

ذلك أن العقيدة أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن ، وعند الله . وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به : أنه قد غَضب عليه ، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا{[16707]} على ما أقدموا عليه من الردة لأجل{[16708]} الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فلا{[16709]} يعقلون بها شيئا ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم .

/خ109


[16707]:في ت: "فما قدموا".
[16708]:في ت: "الردة إلا لأجل".
[16709]:في أ: "فهم لا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

اختلف أهل العربية في العامل في «مَن » من قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، ومن قوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله : { فَعَلَيْهِمْ } ، خبرا لقوله : { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } ، وقوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدَ إيمانِهِ } ، فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدلّ على المعنى . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ } ، مرفوع بالردّ على «الذين » في قوله : { إنّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ } ، ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان . وهذا قول لا وجه له ، وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه ولم يؤمنوا قطّ ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان والتنزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : { وَإذَا بَدّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوا إنمَا أنْتَ مُفْترٍ ، بَلْ أكْثرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله ، وأخبر أنهم أحقّ بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { إنما يَفْتَرِي الكَذِبَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتِ اللّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ } . ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ؛ لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائلٌ فبين فساده ، مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .

والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع ل «من » الأولى والثانية ، قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ } ، والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .

وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعض . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ . . . } إلى آخر الآية . وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش والذي قال ، فأنزل الله تعالى ذكره عذره : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ . . . } إلى قوله : { ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ } ، قال : ذُكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل الله تعالى ذكره : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرا } : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، { فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ ؟ » قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فإنْ عادُوا فَعُدْ » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانَ } قال : نزلت في عمار بن ياسر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا .

فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر عن ابن عباس .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإيمَانِ } ، فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم . فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ؛ لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .