يعرض السياق هذه المشاهد ثم يسأل في استنكار عن آثارها في نفوس المشركين الكفار :
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ? او آذان يسمعون بها ? فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !
إن مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية ، تتحدث بالعبر ، وتنطق بالعظات . . ( أفلم يسيروا في الأرض )فيروها فتوحى لهم بالعبرة ? وتنطق لهم بلسانها البليغ ? وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر ? ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها )فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل . ( أو آذان يسمعون بها )فتسمع أحاديث الأحياء عن تلك الدور المهدمة والآبار المعطلة والقصور الموحشة ? .
أفلم تكن لهم قلوب ? فإنهم يرون ولا يدركون ، ويسمعون ولا يعتبرون ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) !
ويمعن في تحديد مواضع القلوب : ( التي في الصدور )زيادة في التوكيد ، وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد !
ولو كانت هذه القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى ، وجاشت بالعبرة ، وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة الماثلة في مصارع الغابرين ، وهي حولهم كثير .
وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } أي : بأبدانهم وبفكرهم أيضا ، وذلك كاف ، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب " التفكر والاعتبار " :
حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سَيَّار ، حدثنا{[20322]} جعفر ، حدثنا مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى ، عليه السلام ، أن يا موسى ، اتخذ نعلين من حديد وعصا ، ثم سِحْ في الأرض ، واطلب الآثار والعبر ، حتى تتخرق النعلان{[20323]} وتكسر العصا .
وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء : أحْيِ قلبك بالمواعظ ، ونَوِّره بالفِكْر ، ومَوِّته بالزهد ، وقَوِّه باليقين ، وذَلِّلْهُ بالموت{[20324]} ، وقرِّره بالفناء{[20325]} ، وبَصِّره فجائع{[20326]} الدنيا ، وحَذِّره صولةَ{[20327]} الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره ما أصاب{[20328]} من كان قبله ، وسِرْ في ديارهم وآثارهم ، وانظر ما فعلوا ، وأين حَلُّوا ، وعَمَّ انقلبوا .
أي : فانظروا{[20329]} ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال{[20330]} { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : فيعتبرون بها ، { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أي : ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصيرة ، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ، ولا تدري ما الخبر . وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى - وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة{[20331]} الأندلسي الشَّنْتَريني ، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :
يا مَن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء ، وقَد *** نَادَى به الناعيَان : الشيبُ والكبَرُ
إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى ، ففيم تُرَى *** في رَأسك الوَاعيان : السمعُ والبَصَرُ?
ليسَ الأصَمّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل *** لم يَهْده الهَاديان : العَينُ والأثَرُ
لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا ، وَلا الفَلَك ال *** أعلى ولا النَّيّران : الشَّمْسُ وَالقَمَرُ
لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا ، وَإن كَرِها{[20332]} *** فرَاقها ، الثاويان : البَدْو والحَضَرُ
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلََكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد ، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبي رسل الله الذين خلوْا من قبلهم ، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ، وأوطانهم ومساكنهم ، فيتفكرّوا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها سنةَ الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله ، فينيبوا من عتوّهم وكفرهم ، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها حجج الله على خلقه وقدرته على ما بيّنا ، أو آذانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا يقول : أو آذان تصغي لسماع الحقّ فتعي ذلك وتميز بينه وبين الباطل . وقوله : فإنّها لا تَعْمَى الأبْصارُ يقول : فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها ، بل يبصرون ذلك بأبصارهم ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن أنصار الحقّ ومعرفته . والهاء في قوله : فإنّها لا تَعْمَى هاء عماد ، كقول القائل : إنه عبد الله قائم . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «فإنّه لا تَعْمَى الأبْصَارُ » . وقيل : وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصّدُورِ والقلوب لا تكون إلا في الصدور ، توكيدا للكلام ، كما قيل : يَقُولُون بأفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.