( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله . أولئك في ضلال مبين . الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ؛ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ؛ ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
وكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعاً مختلفاً ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية ؛ فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة ، وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة !
والله يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير ، ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء . والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد . ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) . .
وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به . وتصور حالها مع الله . حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة ، والإشراق والاستنارة . كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها ، وعتمتها وظلامها . ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره ، ليس قطعاً كالقاسية قلوبهم من ذكر الله . وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء .
{ أفمن شرح الله صدره . . . } أي أكل الناس سواء ؟ فمن شرح الله صدره ، وخلقه مستعدا لقبول الإسلام فبقي على الفطرة النقية التي لم تشبها العوارض المكتسبة القادحة فيها{ فهو } بمقتضى ذلك{ على نور من ربه } وهداية – كمن قسا قلبه ، وحرج صدره بتبديل الفطرة بسوء الاختيار ، واستولت عليه ظلمات الغي والضلال ؛ فأعرض عن ذكر ربه ؟ { فويل للقاسية قلوبهم } هلاك وخزي لهم .
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : أفيستوي من شرح اللّه صدره للإسلام ، فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها ، منشرحا قرير العين ، على بصيرة من أمره ، وهو المراد بقوله : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } كمن ليس كذلك ، بدليل قوله : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي : لا تلين لكتابه ، ولا تتذكر آياته ، ولا تطمئن بذكره ، بل هي معرضة عن ربها ، ملتفتة إلى غيره ، فهؤلاء لهم الويل الشديد ، والشر الكبير .
{ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه ؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه ، وقسا قلبه عن ذكره ، وأقبل على كل ما يضره ؟ "
قوله تعالى : " أفمن شرح الله صدره للإسلام " شرح فتح ووسع . قال ابن عباس : وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه . وقال السدي : وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام . " فهو على نور من ربه " أي على هدى من ربه . " فويل للقاسية قلوبهم " قال المبرد : يقال قسا القلب إذا صلب ، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها . وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين . والمراد بمن شرح الله صدره ها هنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما . وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقال مقاتل : عمار بن ياسر . وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم . والآية عامة فيمن شرح الله صدوره بخلق الإيمان فيه . وروى مرة عن ابن مسعود قال : قلنا يا رسول الله قوله تعالى : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " كيف انشرح صدره ؟ قال : ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح ) قلنا : يا رسول الله وما علامة ذلك ؟ . قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله ) وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر : أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس ؟ قال : ( أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ) قالوا : فما آية ذلك يا نبي الله ؟ قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة ، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان ، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر ؛ لأن دار الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر ، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك : " جزاء بما كانوا يعملون " [ الواقعة : 24 ] فالجنة جزاء الأعمال ، فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود ، وإذا خمد حرصه عن الدنيا ، ولها عن طلبها ، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع ، فقد تجافى عن دار الغرور . وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر ، واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه ، فقد استعد للموت . فهذه علامتهم في الظاهر . وإنما صار هكذا لرؤية الموت ، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا ، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور ، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب . وقوله : " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " قيل : المراد أبو لهب وولده ، ومعنى : " من ذكر الله " أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره . وقيل : إن " من " بمعنى عن ، والمعنى قست عن قبول ذكر الله . وهذا اختيار الطبري . وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي ) . وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم .
{ أفمن شرح الله صدره للإسلام } تقديره أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه ، وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام علي بن أبي طالب وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده ، واللفظ أعم من ذلك .
{ من ذكر الله } قال الزمخشري : من هنا سببية أي : قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله ، وهذا المعنى بعيد ، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية ، فلذلك تعدى بمن ، والمعنى أن قلوبهم خالية من ذكر الله .
ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به ، سبب عن ذلك الإنكار في قوله : { أفمن شرح الله } أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل { صدره للإسلام } أي للانقياد للدليل ، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل { فهو } أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان { على نور } أي بيان عظيم بكتاب ، به يأخذ ، وبه يعطي ، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه ، يصرفه حيث يشاء ، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت القول إلى مظهر الإحسان فقال : { من ربه } أي المحسن إليه إحسانه في انقياده ، فبشرى له فهو على صراط مستقيم ، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً ، فكان في الظلام خابطاً ، فويل له - هكذا كان الأصل ولكن قيل : { فويل للقاسية قلوبهم } أي لضيق صدورهم ، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال : { من ذكر الله } فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود ، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود .
ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى : { أولئك } أي الأباعد الأباغض { في ضلال مبين * } أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده أولاً - روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، قال : فقلنا : يا رسول الله ! كيف انشراح صدورهم ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : يا رسول الله ؟ فما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت " وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، فعند ذلك لا وجد ولا قصد ، ولا قرب ولا بعد ، كلا بل هو الله الواحد القهار ، وذلك كما قيل : المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته ، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة ، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة ، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب .