في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة ، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا ، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب . ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها ، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب .

( إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت . إن الله عليم خبير ) . .

والله - سبحانه - قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ؛ ليبقى الناس على حذر دائم ، وتوقع دائم ، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها ، وهم لا يعلمون متى تأتي ، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة ، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد ، وكنز الرصيد .

والله ينزل الغيث وفق حكمته ، بالقدر الذي يريده ؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه . والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث ، لأنه سبحانه هو المنشىء للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه . فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة . كما هو ظاهر من النص . وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله . و إن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن . فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان .

( ويعلم ما في الأرحام ) . . اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر( الساعة )فهو سبحانه الذي يعلم وحده . علم يقين . ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور . من فيض وغيض . ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم . ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى ، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة . وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته . . فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى .

( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) . . ماذا تكسب من خير وشر ، ومن نفع وضر ، ومن يسر وعسر ، ومن صحة ومرض ، ومن طاعة ومعصية . فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه ؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة . و هو غيب مغلق ، عليه الأستار . والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب ، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار .

وكذلك : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت )فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار .

وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة ، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود ، وعجزها الواضح ، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة . وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس . ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا ! بل ماذا يكون اللحظة التالية . وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله .

والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة . .

رقعة فسيحة في الزمان والمكان ، وفي الحاضر الواقع ، والمستقبل المنظور ، والغيب السحيق . وفي خواطر النفس ، و وثبات الخيال : ما بين الساعة البعيدة المدى ، والغيث البعيد المصدر ، وما في الأرحام الخافي عن العيان . والكسب في الغد ، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول . . وموضع الموت والدفن ، وهو مبعد في الظنون .

إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء . ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها ، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ؛ ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة ، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ، ولانكشف القاصي منها والدان . . ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ، لأنها فوق مقدور الإنسان ، و وراء علم الإنسان . تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره ، إلا بإذن منه وإلا بمقدار . ( إن الله عليم خبير )وليس غيره بالعليم ولا بالخبير . .

ختام السورة:

وهكذا تنتهي السورة ، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد . ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة ، الشاملة الشاسعة ، وئيد الخطى لكثرة ما طوف ، ولجسامة ما يحمل ، ولطول ما تدبر وما تفكر ، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات !

وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية . فتبارك الله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْما لا يَجْزِي وَالدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئا" هو آتيكم علم إتيانه إياكم عند ربكم، لا يعلم أحد متى هو جائيكم، لا يأتيكم إلاّ بغتة، فاتقوه أن يفجأكم بغتة، وأنتم على ضلالتكم لم تنيبوا منها، فتصيروا من عذاب الله وعقابه إلى ما لا قِبل لكم به وابتدأ تعالى ذكره الخبر عن علمه بمجيء الساعة. والمعنى: ما ذكرت لدلالة الكلام على المراد منه، فقال: "إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ "التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره، "وينزّلُ الغَيْثَ" من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره،

"وَيَعْلَمُ ما في الأرْحامِ" أرحام الإناث،

"وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدا" يقول: وما تعلم نفس حيّ ماذا تعمل في غد، "وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ" يقول: وما تعلم نفس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها. "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" يقول: إن الذي يعلم ذلك كله، هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان... حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عمرو بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسَةٌ، ثم قرأ هؤلاء الآيات "إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ..." إلى آخرها.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... ويحتمل أن يكون قوله: {إن الله عنده علم الساعة} أي عنده علم بماهية الساعة وأهوالها ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها، فأخبر أنه يعلم هو ذلك.

{ويعلم ما في الأرحام} من انتقال النطفة إلى العلقة وانتقال العلقة إلى المضغة وتحول ما في الرحم من حال إلى حال أخرى وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة ونحو ذلك لا يعلمه إلا الله.

{وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} جائز أن يكون كتم ذلك، وأخفاه، ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة، إذ لو كان أطلعهم على ذلك لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت، فيعلمون بكل ما يريدون ويشاؤون. فيكون في ذلك ارتفاع المحنة، فليس ذلك عليهم ليكونوا أبدا في كل وقت وكل حال على حذر وخوف ويقظة، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

إن هذه الخمسة أشياء مما لا يعلمها غيره تعالى على التفصيل والتحقيق. "إن الله عليم "بتفصيل ذلك "خبير" به لا يخفي عليه شيء من ذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار.

وجعل العلم لله والدراية للعبد، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف -وإن أعملت حيلها- ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقال ابن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية و {علم الساعة} مصدر مضاف إلى المفعول، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وعلم: مصدر أضيف إلى الساعة، والمعنى: علم يقين ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس، لأنها جواب لسائل سأل، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إما تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب، لما في ذلك من الحكمة التي سيقت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَيُنَزّلُ الغيث} في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ فلا يعزبُ عن علمِه شيءٌ من الأشياءِ التي من جُملتِها ما ذُكر.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

{وينزل الغيث} في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية، فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل في مقدور الإنسان، ولاسيما أن بعضها قد يكون أحيانا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... معنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم، وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنَّ وقوعها فَتح لما كان مغلقاً.

وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة، فأما في العَوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح عِلم في هذا العالم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{ما في الأرحام}، لا يخص أرحام النساء وحدهن، بل يشمل أرحام الحوامل من كل الإناث، سواء في ذلك إناث الإنسان وإناث غيره من الحيوان، فعلم الله تعالى محيط شامل، وإحصاؤه لخلقه إحصاء كامل، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار} (8: 13)، وصدق الله العظيم إذ قال (32: 53): {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم}.

ختام السورة:

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا تنتهي السورة، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة، الشاملة الشاسعة، وئيد الخطى لكثرة ما طوف، ولجسامة ما يحمل، ولطول ما تدبر وما تفكر، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات! وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين..

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية ، ويأتي في{[54347]} آخر التي بعدها ، إما تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة ، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ، لما في ذلك من الحكمة التي سيقت لها السورة ، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق ، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم{[54348]} مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له : { إن الله } أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال { عنده } أي خاصة ، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور ، ولو قيل " لديه " لأوهم التعبير بلدي{[54349]} التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً ، و{[54350]} أوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن " لدى " أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد ، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت{[54351]} من تطرق احتمال فاسد إليها { علم الساعة } أي وقت قيامها ، لا علم لغيره بذلك أصلاً .

ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها ، وكشف بعض أمرها ، عبر تعالى{[54352]} بالعلم ، ولما كانوا قد ألحوا{[54353]} في السؤال عن وقتها ، وكانت{[54354]} أبعد الخمس عن علم الخلق ، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى

{ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة }[ النازعات : 13 ] أبرزها سبحانه في جملة{[54355]} اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر ، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها ، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها ، وأشكالها وألوانها ، وسائر شأنها ، وطيران الأرواح بالنفخ{[54356]} إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم ، وتغاير صورهم وأطوالهم ، وتباين ألسنتهم وأعمالهم ، إلى{[54357]} غير ذلك من الأمور ، وعجائب المقدور ، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم ، ثم{[54358]} حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين ، هذا إلى موجهم من شدة الزحام ، والكروب العظام بعضاً في بعض . يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات ، وانكدار ما فيها من النيرات ، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم ، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم ، كثرة ، {[54359]}كيف وقد{[54360]} أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا و{[54361]} فيه ملك قائم يصلي ، هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال ، ونسف الأبنية والروابي والتلال ، وغير ذلك مما لا{[54362]} يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه .

{ المفتاح الثاني } : آية الله في خلقه على قيام الساعة ، وأدل الأدلة عليه{[54363]} وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما{[54364]} كان من قبل على اختلاف ألوانه ، ومقاديره وأشكاله ، وأغصانه وأفنانه{[54365]} ، وروائحه وطعومه ، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه ، وأحواله وفنونه ، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها .

ولما كانوا ينسبون الغيث{[54366]} إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان ، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال : { وينزل الغيث } بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير{[54367]} ب " كل " وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه ، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله قبل وقوعه إلا من قبله .

المفتاح الثالث } : علم الأجنة وهو{[54368]} في الرتبة الثانية في الدلالة{[54369]} على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها ، وتشكيلها وتقديرها ، على وصفي الذكورة والأنوثة ، مع الوضوح أو الإشكال ، و{[54370]}الوحدة أو الكثرة ، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع ، والأخلاق والشمائل ، والأكساب{[54371]} والصنائع ، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي{[54372]} لا يحصيها إلا بارئ النسم ، ومحيي الرمم{[54373]} . ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً ، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً ، ونحو ذلك بما{[54374]} ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب ، وكثرة الممارسة ، عبر{[54375]} بالعلم فقال : { ويعلم ما في الأرحام } من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك ، وصيغة{[54376]} المضارع لتجدد الأجنة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت ، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء .

{ المفتاح الرابع } : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح{[54377]} لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق

الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها ، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز ، وعن أحوال الناس عند{[54378]} ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء و{[54379]} الغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل ، وغير ذلك من الصحة والعلل ، في اختلاف الأمور ، وعجائب المقدور ، في الخيور والشرور ، مما{[54380]} لا يحيط به إلا مبدعه ، وغارزه في عباده ومودعه{[54381]} ، ولكون الإنسان - مع أنه{[54382]} ألصق الأشياء به وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في{[54383]} معرفته ، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة " درى " تدور على الدوران ، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر ، فهي أخص من مطلق العلم فقال : { وما تدري نفس } أي من الأنفس البشرية وغيرها { ما } وأكد المعنى ب " ذا " وتجريد الفعل فقال : { ذا تكسب غداً } أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه ، و{[54384]} في نفي علم ذلك عن العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه ، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى ، فصار على طريق الحصر ، وعلم أيضاً أنه لا يسند{[54385]} إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً ، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه ، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً .

{ المفتاح الخامس } : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي ، وابتداء الأمر الأخروي المظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة{[54386]} البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران ، وعز وهوان ، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول ، والصعود والنزول ، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخرله مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه{[54387]} .

ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة مع شدة حذره منه وحبه{[54388]} لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه ، عبر عنه بما عبرعن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند : { وما تدري } وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال : { نفس } أي من البشر وغيره { بأيّ أرض تموت } ولم يقل : بأي وقت ، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين ، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت ، فكان ذلك{[54389]} أدل دليل على جهله بموضوع{[54390]} موته إذ لوعلم به لبعد عنه ولم يقرب منه ، وقد روى البخاري{[54391]} حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ { إن الله عنده علم الساعة } الآية " ، وله{[54392]} عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال{[54393]} : " خمس لا يعلمهن إلا الله { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } " - إلى آخر السورة ، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما{[54394]} ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه ، وقد رتبها سبحانه{[54395]} هذا الترتيب {[54396]}لما تقدم{[54397]} من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية ، وتارة ليس فيها ذكر للعلم ، وأخرى يذكر فيها ، ويسند إليه سبحانه ، ولكن لا على وجه الحصر ، وتارة بنفي العلم عن غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه ، وعلم سر قوله " بأيّ أرض " دون أيّ وقت ، كما في بعض طرق{[54398]} الحديث .

ولما {[54399]}كان قد{[54400]} أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء ، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين ، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به ، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه : { إنّ الله } أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال { عليم } أي شامل العلم للأمور كلها ، كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم ، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق .

ولما أثبت{[54401]} العلم على هذا الوجه ، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله : { خبير } أي يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها ، كل عنده على حد سواء ، فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم ، باختلاف هذا النظام ، على ما فيه من الإحكام ،

فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر{[54402]} مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً ، فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، ولا إله غيره وهو اللطيف .

ختام السورة:

فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً{[1]} مقرباً علياً ، فسبحانه من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، {[2]}ولا إله غيره وهو اللطيف{[3]} .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[54347]:زيد من ظ ومد.
[54348]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كهانتهم.
[54349]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بلد.
[54350]:في مد: أو.
[54351]:زيد من ظ وم ومد.
[54352]:سقط من م.
[54353]:في ظ وم ومد: ألحفوا.
[54354]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كان.
[54355]:في ظ: جمل.
[54356]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالفتح.
[54357]:من ظ وم ومد، وفي الأصل:
[54358]:سقط من ظ.
[54359]:من م ومد، وفي الأصل: وكيف، وفي ظ: فكيف وقد.
[54360]:من م ومد، وفي الأصل: وكيف، وفي ظ: فكيف وقد.
[54361]:زيد من ظ وم ومد.
[54362]:سقط من ظ.
[54363]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: عليها.
[54364]:زيد من ظ وم ومد.
[54365]:سقط من ظ.
[54366]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الغيب.
[54367]:من م ومد، وفي الأصل وظ: التنزوين.
[54368]:في ظ: هي.
[54369]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: الأدلة.
[54370]:في ظ: أو.
[54371]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الاكتساب.
[54372]:من م ومد، وفي الأصل وظ: الذي.
[54373]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الرخايم.
[54374]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مما.
[54375]:زيد من ظ وم ومد.
[54376]:في ظ: بصيغة.
[54377]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المفتاح.
[54378]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عن.
[54379]:سقط من م.
[54380]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عما.
[54381]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مبدعه.
[54382]:سقط من ظ.
[54383]:زيد من ظ وم ومد.
[54384]:سقط من ظ.
[54385]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا ينسب.
[54386]:في ظ ومد: دارة.
[54387]:من م ومد، وفي الأصل وظ: مصطفيه.
[54388]:زيد من ظ وم ومد.
[54389]:زيد من م ومد.
[54390]:في ظ: موضع.
[54391]:راجع صحيحه 2/704.
[54392]:راجع صحيحه 2/704.
[54393]:زيد في ظ: في.
[54394]:زيد في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54395]:زيد في الأصل: على، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54396]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[54397]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[54398]:زيد من ظ وم ومد.
[54399]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[54400]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[54401]:في ظ: ثبت.
[54402]:زيد من ظ وم ومد.