وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته ، في الرد على الأعراب الذين قالوا : ( آمنا )وهم لا يدركون حقيقة الإيمان . والذين منوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان :
( قالت الأعراب : آمنا . قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ? والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم . يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين . إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ، والله بصير بما تعملون ) . .
قيل : إنها نزلت في أعراب بني أسد . قالوا : آمنا . أول ما دخلوا في الإسلام . ومنوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك . فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول . وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاما ، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان . فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم . ولم تشربها أرواحهم : ( قل : لم تؤمنوا . ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . .
ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا . فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيمانا واثقا مطمئنا . هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار . ولا ينقص من أجرها شيء عند الله ما بقوا على الطاعة والاستسلام : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) . ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة ، فيقبل من العبد أول خطوة ، ويرضى منه الطاعة والتسليم إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة : ( إن الله غفور رحيم ) . .
آمنا : صدّقنا بما جئت به من الشرائع ، فالإيمان هو التصديق بالقلب .
أسلمنا : انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به .
يمنّون عليك أن أسلموا : يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة ، وأسدى إليك معروفا .
ثم بعد أن بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح ، بين هنا أن الإيمان وحده لا يكفي ، والإيمانُ هو التصديق بالقلب ، وأن الإسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي . وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الأعراب في إيمانهم ضَعف ، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا . فقال الله تعالى :
{ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا . . . . . }
قالت الأعراب بألسنتهم : آمنا ، فقل لهم يا محمد : إنكم لم تؤمنوا ، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به ، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك ، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد . وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب أعمالكم شيئا .
ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات ، فسارِعوا إلى التوبة .
قرأ أهل البصرة : لا يألتكم بالهمزة ، والباقون : لا يَلتكم بلا همزة ، وهما لغتان : ألت يألت ، ولات يليت . واللغتان في القرآن الكريم . ففي سورة الطور { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
{ قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا } قال مجاهد : نزلت في بني إسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هم مزينة . وجهينة . وأسلم . وأشجع . وغفار قالوا : آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم ، وأياً ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة . وغيره ، وإلحاق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل :
لا تبالي بجمعهم *** كل جمع مؤنث
والنكتة في اعتباره ههنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به ، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد ، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولاً وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانياً ، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب ، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه .
ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية : { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } [ الحجرات : 15 ] تعريضاً بأن الكذب منحصر فيهم ، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لاسيما من النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث للدعوة إلى الإيمان ، على أن إفادة { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى ، ثم قوبل بقوله سبحانه : { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } كأنه قيل : قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل : ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى ، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهماً أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال : القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم ، وقيل : في الآية احتباك والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمان فِى قُلُوبِكُمْ } حال من ضمير { قُولُواْ } كأنه قيل : قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة ، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكرراً مع قوله تعالى : { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } وقيل : الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضاً لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافاً لأبي حيان و لم لا تفيد شيئاً من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتاً للقول المأمور به { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } بالإخلاص وترك النفاق { لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم } لا ينقصكم { شَيْئاً } من أجورها أو شيئاً من النقص يقال لاته يليته ليتاً إذا نقصه ، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات .
وقرأ الحسن . والأعرج . وأبو عمرو { لا } من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتاً وهي لغة أسد وغطفان ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة *** جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء ، وحكى أبو عبيدة ألات يليت { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ } لما فرط من المطيعين { رَّحِيمٌ } بالتفضل عليهم .
ومن باب الإشارة : { قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا } [ الحجرات : 14 ] إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال ، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه ، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه .