في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان . ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور ) .

( وكذلك ) . بمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا الاتصال . ( أوحينا إليك ) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة ، ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك ( روحاً من أمرنا ) . . فيه حياة ، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) . . هكذا يصور نفس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو أعلم بها ، قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن الكتاب وسمع عن الإيمان ، وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم ، وأن لهم عقيدة ، فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .

( ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء ) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به ، بما يعلمه من حقيقتها ، ومن مخالطة هذا النور لها .

( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة ، مسألة الهدى ، بمشيئة الله سبحانه ، وتجريدها من كل ملابسة ، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص ، الذي لا يعرفه سواه ؛ والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] واسطة لتحقيق مشيئة الله ، فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ؛ ولكن يبلغ الرسالة ، فتقع مشيئة الله .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

روحاً من أمرنا : إن هذا القرآن روحٌ تحيا به القلوب ، وتتغذى به الأنفس .

نوراً نهدي به : الناسَ إلى الصراط المستقيم .

ثم ذكر الله تعالى انه كما أوحى إلى الأنبياء قبل محمد فقد أوحى إليه القرآن الكريم ، وما كان محمد قبل ذلك يعلم ما هو القرآن وما الشرائع التي بها هدايةُ البشر وصلاحُهم في الدارَين . ثم خاطبه بهذه العبارة اللطيفة ، { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

{ وَكَذَلِكَ } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } وهو هذا القرآن الكريم ، سماه روحا ، لأن الروح يحيا به الجسد ، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح ، وتحيا به مصالح الدنيا والدين ، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير .

وهو محض منة الله على رسوله وعباده المؤمنين ، من غير سبب منهم ، ولهذا قال : { مَا كُنْتَ تَدْرِي } أي : قبل نزوله عليك { مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } أي : ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة ، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية ، بل كنت أميا لا تخط ولا تقرأ ، فجاءك هذا الكتاب الذي { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع ، والأهواء المردية ، ويعرفون به الحقائق ، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم .

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : تبينه لهم وتوضحه ، وتنيره وترغبهم فيه ، وتنهاهم عن ضده ، وترهبهم منه ، ثم فسر الصراط المستقيم فقال :

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وكذلك} يعني وهكذا.

{أوحينا إليك روحا من أمرنا} يعني الوحي بأمرنا، كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك حين ذكر الأنبياء من قبله، فقال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا}، إلى آخر الآية.

{ما كنت تدري ما الكتاب} يا محمد قبل الوحي، ما الكتاب.

{ولا الإيمان ولكن جعلناه}، يعني القرآن.

{نورا} يعني ضياء من العمى.

{نهدي به} يعني بالقرآن من الضلالة إلى الهدى.

{من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} يعني إنك لتدعو إلى دين مستقيم، يعني الإسلام...

تفسير الشافعي 204 هـ :

قال الشافعي رضي الله عنه: وشهد له جل ثناؤه باستمساكه بأمر ربه والهدى في نفسه وهداية من اتبعه، فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنَ اَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا اَلْكِتَابُ وَلا اَلاِيـمَانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اِللَّهِ اِلذِى لَهُ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اِلاَرْضِ أَلا إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلاُمُورُ} وذكر معها غيرها، ثم قال في شهادته له: أنه يهدي إلى صراط مستقيم صراط الله. وفيما وصفت من فرض طاعته: ما أقام الله به الحجة على خلقه بالتسليم لحكم رسوله واتباع أمره، فما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم فحكم الله سنَّتُهُ. (أحكام الشافعي: 1/30-31.) ــــــــــــ

قال الشافعي: ولم يأمر الناس أن يتبعوا إلا كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قد عصمه الله من الخطأ وبرأه منه، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. فأما من كان رأيه خطأ أو صواب فلا يؤمر أحد باتباعه. ومن قال: للرجل يجتهد برأيه، فيستحسن على غير أصل، فقد أمر باتباع من يمكن منه الخطأ، وأقامه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله اتباعه.

(الأم: 6/202.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"وكَذلكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا" وكما كنا نوحي في سائر رسلنا، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، "روحا من أمرنا": يقول: وحيا ورحمة من أمرنا.

واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: عنى به الرحمة...

وقال آخرون: معناه: وحيا من أمرنا...

وقوله: "مَا كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ وَلا الإيمَانُ "يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ماكنت تدري يا محمد أيّ شيء الكتاب ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما، "وَلَكِنْ جَعَلْناهُ نُورا" يقول: ولكن جعلنا هذا القرآن، وهو الكتاب نورا، يعني ضياءً للناس، يستضيئون بضوئه الذي بيّن الله فيه، وهو بيانه الذي بيّن فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة "نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا" يقول: نهدي بهذا القرآن، فالهاء في قوله «به» من ذكر الكتاب.

ويعني بقوله: "نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ": نسدّد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله "مَنْ نَشاءُ منْ عِبادِنا" يقول: نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا... وقال بعضهم: عنى به الإيمان والكتاب...

وقوله: "وَإنّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم...

وقوله جلّ ثناؤه: "ألا إلى اللّهِ تَصِيرُ الأمُورُ" يقول جلّ ثناؤه: ألا إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الآخرة، فيقضي بينكم بالعدل.

فإن قال قائل: أو ليست أمورهم في الدنيا إليه؟ قيل: هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك، فإن لهم حكاما ووُلاة ينظرون بينهم، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره، فلذلك قيل: إليه تصير الأمور هنالك، وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده قضاؤها وتدبيرها في كل حال.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} كأنه يقول: هكذا أوحينا إليك بالوجوه والطرق التي ذكرنا...

{روحا من أمرنا} أي الكتاب الذي أنزله إليه، وأوجبه عليه سمّاه روحا لأنه يُحيي به الدين، ويكون به حياة الدين، وتحيى به الأبدان، وهو حياة الذكر والشّرف...

{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} أما الكتاب فإنه لا شك أنه لا يدريه، ولا يعلمه، حتى أدراه، وأعمله، وأما الإيمان حين أخبر أنه لا يدريه فهو يحتمل وجوها:

أحدها: ما كنت تدري ما الإيمان في حق اللسان، أو ما كنت تدري ما الإيمان في حق الإيمان، أو ما كنت تدري ما الإيمان في حق قدره ومحلّه ومنزلته عند الله تعالى: فإن كان المراد في حق اللسان فهو ظاهر أنه كان لا يدري في حق ابتداء الأمر أن الإيمان، هو التصديق والتوحيد، أو ما هو؟ وهو معروف أنه كان لا يدريه في حق اللسان حتى أدراه، وأعلمه أنه ماذا؟ وكذلك جميع أهل اللسان لا علم لهم بذلك حتى علّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ على صورة أعرابي حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا كان جبريل، نزل ليُعلّمهم معالم دينكم، والله أعلم.

وإن كان المراد في حق فعل الإيمان ومباشرة رُكنه فهو إذا كان غير قادر على فعله وإتيانه على حدّه، وكان لا يدريه، ولا لا يدري به، فإنه لا يوصف بالجهل به، ألا ترى أن الصغار لا يدرون، ولا يقال: إنهم جهلة؟ وإنما يوصف بالجهل من مَلَك الفكر والنظر وأسباب العلم، ثم ترك ذلك. فعند ذلك يوصف بالجهل. فعلى ذلك يجوز أن يوصف، ويقال: إنه كان لا يدري، ولا يوصف، ولا يقال: إنه كان جاهلا به، والله أعلم.

{ولكن جعلناه نورا} فإن كان المراد هو الإيمان فهو نور بالحجج والبرهان، وهو كما ذكر: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 22].

وإن كان المراد هو الكتاب فهو نور لما يرفع جميع حُجُب القلوب وسواترها عمّن اتّبعه، ونظر إليه بعين التعظيم.

{نهدي به من نشاء من عبادنا} من علِم أنه يختاره شاء أن يهديه.

{به} يحتمل القرآن، ويحتمل الإيمان نفسه، أي يجعله بالإيمان مهديًّا.

{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} قوله: {لتهدي} يحتمل لتدعو أولئك أو لتدين لهم الصراط المستقيم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{مَا كُنتَ تَدْرِي} قبل الوحي. {مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} يعني شرائع الإيمان ومعالمه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{نهدي به من نشاء من عبادنا} وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى كما قال: {هدى للمتقين} فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة؛ لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله {نهدي به من نشاء من عبادنا} أمرا مغايرا لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار، ولا يجوز أيضا أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنة؛ لأنه تعالى قال: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدنيا، وأيضا فالهداية إلى الجنة عندكم في حق البعض واجب، وفي حق الآخرين محظور، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله {من نشاء من عبادنا} فائدة، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

في هذا الإيمان وجهان:

أحدهما: أنه الإيمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته.

والثاني: أنه دين الإسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. قلت: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم.

وقيل:"ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون "[العنكبوت: 48] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

قد قيل: إن الضمير في «جعلناه» عائد إلى الأمر. وقيل: إلى الكتاب، وقيل: إلى الإيمان. والصواب: أنه عائد إلى «الروح» أي جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورا. فسماه «روحا» لما يحصل به من الحياة الطيبة، والعلم والقوة. وجعله «نورا» لما يحصل به الإشراق والإضاءة، وهما متلازمان. فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الإضاءة والاستنارة، وحيث وجدت الاستنارة والإضاءة وجدت الحياة. فمن لم يقبل هذا الروح فهو ميت مظلم، كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو هالك مضمحل. فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة، وبالنار من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أوحينا إليك} صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله:"أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم.

{روحاً} أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً. وزاد عظمه بقوله: {من أمرنا} أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء؛ لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء، ودل على ذلك بقوله، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي: {ما كنت} أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى {تدري} وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية.

{ما الكتاب} أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها.

{ولا الإيمان} أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه.

ولما كان المعنى: ولكن نحن أدريناك بذلك كله، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام؛ لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله: {ولكن جعلناه} أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة {نوراً نهدي} على عظمتنا {به من نشاء} خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا {من عبادنا} بخلق الهداية في قلبه، قال ابن برجان: فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور

وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

الوحي تم بالطريقة المعهودة، ولم يكن أمرك بدعا. أوحينا إليك (روحاً من أمرنا). فيه حياة، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود. (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).. هكذا يصور نفس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو أعلم بها، قبل أن تتلقى هذا الوحي. وقد سمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الكتاب وسمع عن الإيمان، وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم، وأن لهم عقيدة، فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد -عليه صلوات الله.

(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء).. وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.

(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).. وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه، وتجريدها من كل ملابسة، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الذي لا يعرفه سواه؛ والرسول [صلى الله عليه وسلم] واسطة لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشى الهدى في القلوب؛ ولكن يبلغ الرسالة، فتقع مشيئة الله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

المراد بالروح من أمر الله: ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية.

واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله: {كذلك أوحينا إليك} [الشورى: 7] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر.

ومعنى عدم دراية الكتاب: عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه. ومعنى انتفاء دراية الإيمان: عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]. فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام. فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال: {ما كنت تدري} ولم يقل: ما كنت مؤمناً.

وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمناً بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه؛ إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة، فهم مُوحّدُون لله ونابذون لعبادة الأصنام، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان، وكان نبيئنا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحِّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة.

وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في « دلائل النبوءة» عن شداد بن أوس وذكره عياض في « الشفاء» غير معزو:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نَشَأت أي عقلت بُغِّضَتَ إليَّ الأوْثانُ وبُغض إليَّ الشعرُ، ولم أهِمَّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أَعُدْ". وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجُّوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم. وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل نبوءته بشرع.

وإدْخال {لا} النافية في قوله: {ولا الإيمان} تأكيد لنفي درايته إيّاه، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحدٍ منهما.

وقوله: {ولكن جعلناه نوراً} عطف على جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}. وضمير {جعلناه} عائد إلى الكتاب في قوله: {ما كنت تدري ما الكتاب}. والتقدير: وجعلنا الكتاب نوراً. وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}.

والاستدراك ناشئ على ما تضمنته جملة {ما كنت تدري ما الكتاب}؛ لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته، فالاستدراك واقع في المحزّ. والتقدير: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهَدَيت به النّاس ثانياً فاهتدى به من شِئنا هدايته، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء، كقوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26].

وشبه الكتاب بالنّور لمناسبة الهَدي به؛ لأن الإيمان والهُدى والعلم تشبَّه بالنور، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة، قال تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النّور} [البقرة: 257]. وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق، فالنّور وسيلة الاهتداء؛ ولكن إنما يَهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى: {نهدي به من نشاء من عبادنا}، أي نَخلُق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهُدى من عبادنا. فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب.

{وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مستقيم}.

أي نهدي به من نشاء بدعوتك وواسطتك فلما أثبت الهديَ إلى الله وجعل الكتاب سبباً لتحصيل الهداية عطف عليه وساطةَ الرّسول في إيصال ذلك الهدي؛ تنويهاً بشأن الرّسول صلى الله عليه وسلم، فجملة {وإنك لتهدي} عطف على جملة {نهدي به من نشاء من عبادنا}، وفي الكلام تعريض بالمشركين إذ لم يهتدوا به وإذ كبر عليهم ما يدعوهم إليه مع أنه يهديهم إلى صراط مستقيم.

والهداية في قوله: {وإنك لتهدي} هداية عامة. وهي: إرشاد النّاس إلى طريق الخير فهي تخالف الهداية في قوله: {نهدي به من نشاء}. وحذف مفعول {لتهدي} للعموم، أي لتهدي جميع النّاس، أي ترشدهم إلى صراط مستقيم، وهذا كقوله: {وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة} [البلد: 10، 11].

وتأكيد الخبر ب (إنَّ) للاهتمام به لأن الخبر مستعمل في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بهذا المقام العظيم فالخبر مستعمل في لازم معناه، على أنه مستعمل أيضاً للتعريض بالمنكرين لِهَدْيِهِ فيكون في التأكيد ملاحظة تحقيقه وإبطال إنكارهم. فكما أن الخبر مستعمل في لازمين من لوازم معناه فكذلك التأكيدُ ب (إنَّ) مستعمل في غرضين من أغراضه، وكلا الأمرين مما ألحق باستعمال المشترك في معنييه.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يقول الراغب في مفرادته: سمي القرآن روحاً في قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وذلك لكون القرآن سبب للحياة الأخروية. وهذا المعنى يتلاءم بشكل كامل مع القرائن المختلفة الموجودة في الآية مثل عبارة (كذلك) التي تشير إلى قضية الوحي، وعبارة (أوحينا) وعبارات اُخرى بخصوص القرآن وردت في نهاية هذه الآية وبالرغم من أن (روح) وردت غالباً بمعاني اُخرى سائر آيات القرآن، إلاّ أنّه وفقاً للقرائن أعلاه يظهر أنّها وردت هنا بمعنى القرآن. وقد قلنا أيضاً في تفسير الآية 2 من سورة النحل: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) أن كلمة (روح) في هذه الآية وفقاً للقرائن وردت بمعنى (القرآن والوحي والنبوة) وفي الحقيقة فإن هاتين الآيتين تفسر إحداهما الأُخرى. فكيف يمكن للقرآن أن لا يكون روحاً في حين أنّنا نقرأ في الآية (24) من سورة الأنفال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)...

(ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا). فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك أنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه. فالإرادة الإلهية كانت تقتضي أن يهدي عباده الآخرين في ظل هذا النور السماوي، وأن يشمل الشرق والغرب بل وجميع القرون والأعصار حتى النهاية إضافة إلى هدايتك أنت إلى هذا الكتاب السماوي الكبير وتعليماته.

بعض المنحرفين فكرياً كانوا يتصورون أن هذه الجملة تبيّن أن الرّسول لم يكن يؤمن بالله قبل نبوته، في حين أن معنى الآية واضح، حيث أنّها تقول: إنّك لم تكن تعرف القرآن قبل نزوله ولم تكن تعرف تعليماته وتؤمن به وهذا لا يتعارض أبداً مع اعتقاد الرّسول التوحيدي ومعرفته العالية بأصول العبادة لله وعبوديته له. والخلاصة، إن عدم معرفة محتوى القرآن يختلف عن موضوع عدم معرفة الله. فحياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مرحلة النبوة والواردة في كتب التاريخ، تعتبر دليلا حياً على هذا المعنى.

والأوضح من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: «وقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره».

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

{ وكذلك } وكما أوحينا إلى سائر الرسل { أوحينا إليك روحا } ما يحيا به الخلق

أي يهتدون به وهو القرآن { من أمرنا } أي فعلنا في الوحي إليك { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } قبل الوحي ويعني بالإيمان شرائعه ومعالمه { ولكن جعلناه } جعلنا الكتاب { نورا } وقوله { وإنك لتهدي } بوحينا إليك { إلى صراط مستقيم } يعني الإسلام

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك " أي وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك " روحا " أي نبوة ، قاله ابن عباس . الحسن وقتادة : رحمة من عندنا . السدي : وحيا . الكلبي : كتابا . الربيع : هو جبريل . الضحاك : هو القرآن . وهو قول مالك بن دينار . وسماه روحا لأن فيه حياة من موت الجهل . وجعله من أمره بمعنى أنزل كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب . ويمكن أن يحمل قوله : " ويسألونك عن الروح " [ الإسراء : 85 ] على القرآن أيضا " قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء : 85 ] أي يسألونك من أين لك هذا القرآن ، قل إنه من أمر الله أنزل علي معجزا ، ذكره القشيري . وكان مالك بن دينار يقول : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض .

الثانية- قوله تعالى : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " أي لم تكن تعرف الطريق إلى الإيمان . وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الإيحاء متصفا بالإيمان . قال القشيري : وهو من مجوزات العقول ، والذي صار إليه المعظم أن الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة . وفيه تحكم ، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به . قال القاضي أبو الفضل عياض : وأما عصمتهم من هذا الفن{[13559]} قبل النبوة فللناس فيه خلاف ، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك . وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ، ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة ، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام . قال الله تعالى : " وآتيناه الحكم صبيا " {[13560]} [ مريم : 12 ] قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه . قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب ! فقال : أللعب خلقت ! وقيل في قوله : " مصدقا بكلمة من الله " {[13561]} [ آل عمران : 39 ] صدق يحيى بعيسى وهو بن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله وروحه وقيل : صدقه وهو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحية له . وقد نص الله على كلام عيسى لأمه عند ولادتها إياه بقول : " ألا تحزني " [ مريم : 24 ] على قراءة من قرأ " من تحتها " ، وعلى قول من قال : إن المنادى عيسى ونص على كلامه في مهده فقال : " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " [ مريم : 30 ] . وقال " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " {[13562]} [ الأنبياء : 79 ] وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود . وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما . وكذلك قصة موسى عليه السلام مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل . وقال المفسرون في قوله تعالى : " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل " {[13563]} [ الأنبياء : 51 ] : أي هديناه صغيرا . قاله مجاهد وغيره . وقال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه . وقال بعضهم : لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال : قد فعلت ، ولم يقل أفعل ، فذلك رشده . وقيل : إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشره سنة . وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين . وأن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة{[13564]} . وقيل أوحي إلى يوسف وهو صبي عند ما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى : " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا " {[13565]} [ يوسف : 15 ] الآية ؛ إلى غير ذلك من أخبارهم . وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولد حين ولد باسطا يديه إلى الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، وقال في حديثه صلى الله عليه وسلم : ( لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين ، فعصمني الله منهما ثم لم أعد ) . ثم يتمكن الأمر لهم ، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم ، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة . قال الله تعالى : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما " {[13566]} [ يوسف : 22 ] . قال القاضي : ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك . ومستند هذا الباب النقل . وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله . قال القاضي : وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا عليه السلام بكل ما افترته ، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته ، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه . ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، وبتلونه في معبوده محتجين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ؛ إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا : " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [ البقرة : 142 ] كما حكاه الله عنهم .

الثالثة- وتكلم العلماء في نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا ، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا . قالوا : لأنه مبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا ، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح . وقالت فرقة أخرى : بالوقف في أمره عليه السلام وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يُحِل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها{[13567]} في أحدهما طريق النقل ، وهذا مذهب أبي المعالي . وقالت فرقة ثالثة : إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به ، ثم اختلف هؤلاء في التعيين ، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبلها ، فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ . وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم ؛ لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء . وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى ؛ لأنه أقدم الأديان . وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا . وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا ؛ إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة ، وإن كان العقل يجوز ذلك كله . والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته ، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم جل وعز وأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل ، ولا سجد لصنم ، ولا أشرك بالله ، ولا زنى ولا شرب الخمر ، ولا شهد السامر{[13568]} ولا حضر حلف المطر{[13569]} ولا حلف المطيبين{[13570]} ، بل نزهه الله وصانه عن ذلك . فإن قيل : فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه ، فقال الآخر : كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد ؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدا وقال : هذا موضوع أو شبيه بالموضوع . وقال الدارقطني : إن عثمان وهم في إسناده ، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه ، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه عند أهل العلم من قوله : ( بغضت إلي الأصنام ) وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى ، إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي ، ورأى فيه علامات النبوة فاختبره بذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما ) فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ، فقال : ( سل عما بدا لك ) . وكذلك المعروف من سيرته عليه السلام وتوفيق الله إياه له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج ، وكان يقف هو بعرفة ، لأنه كان موقف إبراهيم عليه السلام . فإن قيل : فقد قال الله تعالى : " قل بل ملة إبراهيم " {[13571]} [ البقرة : 135 ] وقال : " أن اتبع ملة إبراهيم " {[13572]} [ النحل : 12 ] وقال : " شرع لكم من الدين " [ الشورى : 13 ] الآية . وهذا يقتضي أن يكون متعبدا بشرع . فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين ، على ما تقدم بيانه في غير موضع وفي هذه السورة عند قوله : " شرع لكم من الدين " {[13573]} [ الشورى : 13 ] والحمد لله .

الرابعة- إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " . فقال جماعة : معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان ومعالمه ، ذكره الثعلبي . وقيل : تفاصيل هذا الفرع ، أي كنت غافلا عن هذه التفاصيل . ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع ، ذكره القشيري : وقيل : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان ، ونحوه عن أبي العالية . وقال بكر القاضي : ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام . قال : وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا . وهذه الأقوال الأربعة متقاربة . وقال ابن خزيمة : عني بالإيمان الصلاة ، لقوله تعالى : " وما كان الله ليضيع إيمانكم " [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، فيكون اللفظ عاما والمراد الخصوص . وقال الحسين بن الفضل : أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الإيمان . وهو من باب حذف المضاف ، أي من الذي يؤمن ؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما . وقيل : ما كنت تدري شيئا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ . وحكى الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال : ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة ، ولا الإيمان لولا البلوغ . وقيل : ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك ، وهو محتمل . وفي هذا الإيمان وجهان : أحدهما : أنه الإيمان بالله ، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته . والثاني : أنه دين الإسلام ، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة .

قلت : الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه ، على ما تقدم . وقيل : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان ، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم ، وهو كقوله تعالى : " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " {[13574]} [ العنكبوت : 48 ] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما . " ولكن جعلناه " قال ابن عباس والضحاك : يعني الإيمان . السدي : القرآن . وقيل الوحي ، أي جعلنا هذا الوحي " نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " أي من نختاره للنبوة ، كقوله تعالى : " يختص برحمته من يشاء " {[13575]} [ آل عمران : 74 ] . ووحد الكتابة لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل في الاسم الواحد ، ألا ترى أنك تقول : إقبالك وإدبارك يعجبني ، فتوحد ، وهما اثنان . " وإنك لتهدي " أي تدعو وترشد " إلى صراط مستقيم " دين قويم لا اعوجاج فيه . وقال علي : إلى كتاب مستقيم . وقرأ عاصم الجحدري وحوشب " وإنك لتهدى " غير مسمى الفاعل ، أي لتدعى . الباقون " لتهدي " مسمى الفاعل . وفي قراءة أبي " وإنك لتدعو " . قال النحاس : وهذا لا يقرأ به ؛ لأنه مخالف للسواد ، وإنما يحمل ما كان مثله على أنه من قائله على جهة التفسير ، كما قال : " وإنك لتهدي " أي لتدعو . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " قال : " ولكل قوم هاد " [ الرعد : 7 ] .


[13559]:كذا في الأصل.
[13560]:آية 12 سورة مريم.
[13561]:آية 39 سورة آل عمران.
[13562]:آية 79 سورة الأنبياء.
[13563]:آية 51 سورة الأنبياء.
[13564]:في الأصول:" خمسة عشر شهرا" راجع ج 7 ص 25.
[13565]:آية 15 سورة يوسف.
[13566]:آية 14 سورة القصص.
[13567]:في الأصول:"عندهما".
[13568]:الموضع الذي يجتمعون للسمر فيه.
[13569]:كذا في الأصول.
[13570]:في الأصول:"المطيب". قال ابن الأثير:"أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلوات الله عليه:" لا حلف في الإسلام". وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام". ويلاحظ أنه قال صلى الله عليه وسلم:" شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين". اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسموا المطيبين. وقال عليه السلام: " شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت". قال ابن الأثير: يعني حلف الفضول. (راجع نهاية ابن الأثير مادة حلف. طيب. فضل).
[13571]:آية 135 سورة البقرة.
[13572]:آية 123 سورة النحل.
[13573]:آية 13 من هذه السورة.
[13574]:آية 48 سورة العنكبوت.
[13575]:آية 105 سورة البقرة.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (52)

ولما كان الوحي روحاً مدبراً للروح كما أن الروح مدبر للبدن ، صرح به فقال : { وكذلك } أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا { أوحينا إليك } صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام ، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور ، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله : " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً ، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه ، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم { روحاً } أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً . وزاد عظمه بقوله : { من أمرنا } أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح ، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء ، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء ، ودل على ذلك بقوله ، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي : { ما كنت } أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى { تدري } وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه ، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية { ما الكتاب } أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها { ولا الإيمان } أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك ، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك ، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه .

ولما كان المعنى : ولكن نحن أدريناك بذلك كله ، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله : { ولكن جعلناه } أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة { نوراً نهدي } على عظمتنا { به من نشاء } خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا { من عبادنا } بخلق الهداية في قلبه ، قال ابن برجان : فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات ، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور ، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به ، وقال الأصبهاني في سورة النور : هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلاً على الأرض والجدار وغيرهما ، يقال : استنارت الأرض ، وقال حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه : ومن المعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة ، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود العين الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك ، وأما النورالخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك ، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش : إن نور عينيه ضعيف ، وفي الأعمى أنه فقد نور البصر ، إذا ثبت هذا فنقول : للإنسان بصر وبصيرة ، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان ، والبصيرة هي القوة العاقلة ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي نوراً ، ونور العقل أقوى وأشد من نور العين ، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها ، والقوة العاقلة تدرك نفسها ، وإدراكها وآلتها فنور العقل اكمل من نور البصر ، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها ، وإدراك الكليات أشرف لانه لا يتغير بخلاف الجزئيات ، وإدراك العقل منتج وإدراك الجزئي غير منتج ، والقوة الباصرة لا تدرك إلا السطح الظاهر من الجسم واللون القائم بذلك السطح بشرط الضوء ، فإذا أدركت الإنسان لم تدرك منه إلا السطح الظاهر من جسمه واللون القائم به ، والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وباطنها فان الباطن والظاهر بالنسبة إليها على السواء ، فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الظاهر والباطن ، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن ، ومدرك القوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله ، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال ، والقوة الباصرة كالخادم والقوة العاقلة كالأمير ، والأمير أشرف من الخادم ، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط ، فثبت أن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور ، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً ، والإدراك العقلي قسمان : أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والآلات وهي التعقلات الفطرية ، والثاني ما يكون مكتسباً ، وهي التعقلات النظرية ، ولا يكون من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً البتة ، فهذه الأنوار إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب ، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد من هاد ومرشد ، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه ، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس كما يسمى نور الشمس نوراً فنور القرآن يشبه نور الشمس ، ونور العقل يشبه نور العين ، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا }[ التغابن : 8 ] { قد جاءكم برهان من ربكم }{ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً }[ النساء : 74 ] وإذا ثبت أن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس كما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها ، فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر النفوس البشرية ولا تستفيد النور العقلي من شيء من النفوس البشرية ، فلذلك وصف الله الشمس بأنها سراج ، ووصف محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سراج ، ثم قال : ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال ، وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منه إلى طشت مملوء ماء موضوع على الأرض ثم انعكس منه إلى سقف البيت ، فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن ، وثانيها في القمر ، وثالثها في المرآة ، ورابعها في الماء ، وخامسها في السقف ، وكل ما كان أقرب إلى المعدن كان أقوى ، فكذا الأنوار السماوية لما كانت مترتبة لا جرم كان النور المفيد أشد إشراقاً ، ثم تلك الأنوار لا تزال مترتبة حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد بقوله{ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً }[ النبأ : 38 ] ثم نقول : إن هذه الأنوار الحسية سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كأنوارالشمس وكذا الأنوار العقلية سفلية كانت كأرواح الأنبياء والأولياء وعلوية كأرواح الملائكة فإنها ممكنة لذواتها والممكن لذاته لا يستحق الوجود لذاته بل وجوده من غيره ، والعدم هو الظلمة والوجود هو النور ، فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها وجودها حاصل من وجود الله تعالى فإن الحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم ، وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره ، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف ، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وإن إطلاق النور على غيره مجاز ، وكل ما سوى الله من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث أنه ممكن عدم محض بل الأنوار إذا نظر إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنها من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معدوم ، والمعدوم مظلم ، فالنور إذا نظر من حيث هو ممكن مظلم ، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود بهذا الاعتبار صارت أنواراً ، فثبت أنه سبحانه هو النور وأن كل ما سواه ليس بنور ، وأضاف النور إلى الخافقين في قوله { نور السماوات والأرض } لأنهما مشحونتان بالأنوار العقلية والأنوار الحسية ، أما الحسية فما نشاهده في السماوات من الكواكب وغيرها ، وفي الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت بها الألوان المختلفة ، ولولاها لما كان للألوان ظهور بل وجود ، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأدنى مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية ، وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم الأسفل كما أنه بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي ، وإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار البصرية الظاهرة والعقلية الباطنة ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج ، والسراج هو الروح النبوي ، ثم إن الأنوار القدسية مقتبسة من الأنوار العلوية اقتباس السراج من النور ، وإن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وإن بينها ترتيباً في الغايات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وذلك هو الله وحده لا شريك له ، فإذا الكل نوره ، ثم قال : قال الإمام الغزالي : قد تبين أن القوى المدركة أنوار .

ومراتب القوة المدركة الإنسانية خمسة ، أحدهما القوة الحساسة وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس ، وكأنها أصل الروح الحيواني إذ بها يصير الحيوان حيواناً ، وهي موجودة للصبي والرضيع ، وثانيها القوة الخيالية وهي التي تسبب ما أوردته الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه عن القوة العقلية عند الحاجة إليه ، وثالثها القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ، ورابعها القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً تستنتج منه علماً بالمجهول ، وخامسها القوة القدسية التي يختص بها الأنبياء وبعض الأولياء ، وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، وإليه أشار قوله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } الآية ، وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات ، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأمور الخمسة التي ذكرها الله في المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت ، أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصته وجدت أنواره خارجة من ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين ، فأرفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة ، وأما الثاني وهو الروح الخيالي فله خواص ثلاثة : الأول أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو شكل وحيز ، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة ، والثاني أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق صار موازناً للمعارف العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني العقلية كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبختم فروج الناس وأفواههم على الأذان قبل الصبح ، والثالث أن الخيال في البداية محتاج إليه لتضبط به المعارف العقلية ولا تضطرب ، وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه من الانطفاء بالزجاج ، وأما الثالث وهو القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح ، وأما الرابع وهو القوة الفكرية فمن خاصيتها أنها تأخذ ماهية واحدة ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا : الموجود إما واجب وإما ممكن ، ثم تجعل كل قسم قسمين ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى ما لا يقبل القسمة ، ثم تنتهي بالآخرة إلى نتائج هي ثمرتها ، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة ، وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف وبيانها فبالحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح بل بشجرة الزيتون خاصة لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح ، وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان ، وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا نهاية لمنفعتها وثمرتها أولى أن تسمى شجرة مباركة ، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ، فبالحري أن لا تكون شرقية ولا غربية ، وأما الخامس وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء ، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما تحتاج إلى تعليم وإلى ما لا يحتاج إليه ، ولا بد من وجود هذا القسم دفعاً للتسلسل فبالحري أن يعبر عن هذا القسم لكماله وصفاته بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار ، فهذا المثال موافق لهذه الأقسام ، وهذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض ، فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال ، والخيال كالمقدمة للعقل - انتهى كلام الغزالي رحمه الله تعالى عن نقل الأصفهاني في تفسيره عنه - والله أعلم .

ولما كان المعنى بناء على ما تقدم من صفة الروح الإلهي : فهديناك به ، عطف عليه قوله تعالى : { وإنك لتهدي } أي تبين وترشد ، وأكده لإنكارهم ذلك { إلى صراط } أي طريق واضح جداً ، وإن عانيت في البيان مشقة بنفسك وبالوسائط بما أفادته التعدية ب " إلى " فيفهم من ذلك أنه يهدي للصراط بدون ذلك من العناية لمن يسر الله أمره ويهدي الصراط لمن هو أعظم توفيقاً من ذلك { مستقيم } أي شديد التقوم لأنه كأنه يريد أن يقوم نفسه فهو بعد وجود تقومه حافظ لها من أدنى خلل ، وهو كل ما دعا إليه من خصال هذا الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ،