سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة
هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص " المنافقون " الدال على موضوعها . . ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين ، ووصف أحوالهم ومكائدهم . فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا . ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين ، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم .
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين ، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب .
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين ، ولو من بعيد . وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله ، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد ، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات .
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة ، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريبا ، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين . . هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها ؛ وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا ؛ وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة ، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين .
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب : " سيرة الرسول : صور مقتبسة من القرآن الكريم " لمؤلفه الأستاذ " محمد عزة دروزة " نقتطف منه فقرات كاشفة :
" وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة ، فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم ، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر ، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء ، كما كان شأن المنافقين بوجه عام . ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا ، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد ، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ ؛ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا ، ثم إلى يثرب ؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه ، أو بالإغراء والتهويش ؛ وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين ، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب . . .
" أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا . فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج ؛ ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه ، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام . ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء ، وإما عن غيظ وحقد وعناد ، لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار ؛ وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف ، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي ، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر ، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم ، وغدوا يرون في النبي رسول الله ، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة ، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع ، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك ، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد ، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم ، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام ، والقيام بأركانه ، والتضامن مع قبائلهم . وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه ، وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس ، وعليها طابع من النفاق بارز ، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين ، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط ؛ ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق ، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا . وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة ، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون ، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم ، وتحذر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة .
" ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية ، حتى لكأنه نضال قوي ، يذكر بما كان من نضال بين النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وزعماء مكة ، وإن اختلفت الأدوار والنتائج ؛ إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ، ودائرة الإسلام تتسع ، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز ؛ وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة ، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واتساع دائرة الإسلام ، وتوطد عزته وسلطانه " .
[ ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون ، وخاصة في أوائل العهد ، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم ، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة ، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا ؛ وأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب ، وأهل مكة خصومه الألداء ، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر ، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه ؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به ، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر ؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى ، والتضامن في موقف المعارضة والكيد ، حتى ليمكن القول : إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد ، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق ، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم ، وكفاه شرهم ] .
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر ، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هو رسول الله . وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون ، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم ، ويخدعون المسلمين فيهم :
( إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله - والله يعلم إنك لرسوله - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ) . .
فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان ، لا يقصدون بها وجه الحق ، إنما يقولونها للتقية ، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين . فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة ، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها ، ويداروا أنفسهم بقولها . ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة : ( والله يعلم إنك لرسوله ) . . ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه . فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين . ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير !
سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الحج . وفي السورة حملة عنيفة على أخلاق المنافقين ، وبيان كذبهم ، وفضح دسائسهم ومناوراتهم . وقد ذُكر المنافقون في عدد من السور المدنية ، ولكن هذه السورة غالبها عنهم . وفيها إشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم . وقد اشتملت على طائفة من أوصافهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين .
وعلة ظهور حركة المنافقين في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى المدينة كان له بها قوة ، وكان معظم أهل المدينة مسلمين ، حتى لم يبق بيت عربي فيها إلا دخله الإسلام ، فكان موقف الرسول فيها من مركز القوة ، على خلاف موقفه في مكة ، حيث لم يكن له تلك القوة ، ولا ذلك النفوذ حتى يكون هناك فئة من الناس ترهبه أو ترجو خيره . . فتتملقه وتتزلّف إليه في الظاهر ، وتتآمر عليه وتكيد له ولأصحابه وتمكر بهم في الخفاء .
فظهرت حركة المنافقين ، فكانوا يتظاهرون بالإسلام ، ويصلون مع المسلمين ، ويحضرون مجالسهم ويستمعون إلى الرسول الكريم ، وإذا خرجوا من عنده حرّفوا ما سمعوا من الأقوال ، واجتمعوا مع شياطينهم من اليهود ، وأخذوا يتآمرون على المسلمين ، ويطعنون فيهم ، ويحاولون أن يزعزعوا إيمان الضعفاء من المسلمين . وكان لهم دور كبير في زعزعة إيمان بعضهم عن طريق الإرجاف وبثّ الأكاذيب في المدينة ، ففضحهم القرآن الكريم في أكثر من سورة .
وهنا تذكر السورة أنهم يعلنون إيمانهم بألسنتهم غير صادقين ، ويجعلون أيمانهم الكاذبة وقاية لهم من وصف الكفر الذي هم عليه ، ومجازاتهم به . وقد وصفتهم بوصف عجيب فبينت أنهم ذوو أجسام حسنة تعجب من رآها ، وأصحاب فصاحة تعزّ السامعين وهم مع ذلك فارغة قلوبهم من الإيمان كأنهم خشب مسندة لا حياة فيهم . { هم العدو فاحذرهم ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون } .
وبينت السورة بوضوح أن ما زعمه المنافقون من أنهم أعزة وأن المؤمنين أذلة ، وما توعدوا به المؤمنين من إخراجهم من المدينة ، كله هراء سخيف . فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين . { ولكن المنافقين لا يعلمون } .
وفي ختام السورة يوجه الله الخطاب للمؤمنين ، بأن لا تلهيهم أموالهم
ولا أولادهم عن ذكر الله ، وأن ينفقوا في سبيل الله ، من قبل أن يأتي أحدهم الموت ، فيندم ويتمنى أن لو تأخر أجله { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، والله خبير بما تعملون } .
المنافق : هو من يُظهر الإيمان ويبطن الكفر .
لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة ، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون ، قد تستّروا بأيمانهم ، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم ، وهم يصدّون الناس عن الإسلام ، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين . وأنهم جُبناء ، فرغم ضخامة أجسامهم ، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم ، يظنّون كل صيحة عليهم .
ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى :
{ إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } .
فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون إليه ويحلفون عنده بأنهم مؤمنون به ، يكونون غير صادقين ، والله يعلم أن سيدنا محمداً رسول الله ، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله :
{ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ }
كذبوا فيما أخبَروا به ، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .
ثم بين أنهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم ، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين .
تفسير سورة المنافقين{[1]} مدنية
{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها{[1103]} ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج ، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ليبقى جاههم ، وتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون ، لكي يحذر العباد منهم ، ويكونوا منهم على بصيرة ، فقال : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا } على وجه الكذب : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق ، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله ، فإن { اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم ، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم .
قوله تعالى : " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبدالله بن أبي ابن سلول يقول : " لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا " . وقال : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل : " إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - ليخرجن الأعز منها الأذل " فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( إن الله قد صدقك ) خرجه الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حول حجارة ، ويجعل النطع{[15021]} عليه حتى تجيء أصحابه . قال . : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا{[15022]} فغاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبدالله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبدالله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام ، فقال عبدالله : إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده . ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال زيد : وأنا رِدْف عمي{[15023]} فسمعت عبدالله بن أبي فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد . قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني . قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أنْ مَقَتَك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون{[15024]} . قال : فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع{[15025]} على أحد . قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خففت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا . ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال أبشر ! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر . فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) . وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) . أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا ، وخبره صدق . وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال : إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا . إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين ، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال ؛ شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق . وليس المعنى : أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق . وقد مضى في سورة " التوبة " القول في هذا مستوفى والحمد لله{[15026]} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى ) . والمعنى : المؤمن الكامل إذا حدث صدق . والله اعلم .
قوله تعالى : " قالوا نشهد إنك لرسول الله " قيل : معنى " نشهد " نحلف . فعبر عن الحلف بالشهادة ؛ لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب{[15027]} ، ومنه قول قيس بن ذريح .
وأشهد عند الله أني أحبها *** فهذا لها عندي فما عندها لِيَا
ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالإيمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه . " والله يعلم إنك لرسوله " كما قالوه بألسنتهم . " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم . وقال الفراء : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بضمائرهم ، فالتكذيب راجع إلى الضمائر . وهذا يدل على أن الإيمان تصديق القلب ، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب . ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب . وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة " مستوفى{[15028]} وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى : " يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم{[15029]} " [ التوبة : 56 ] .