ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكية لله في الكون ، وللعلو والعظمة كذلك . يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها ، ومن زيغ بعض من فى الأرض عنها . كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم :
والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض ، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير . وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس . في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه ، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة ! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا - نحن البشر - أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة ، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة ، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئية . أي المحسوبة بسرعة الضوء ، التي تبلغ 168 . 000 ميل في الثانية !
هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن . . من خشية الله وعظمته وعلوه ، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون ، فيرتعش ، وينتفض ، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه !
( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ) . .
والملائكة أهل طاعة مطلقة ، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة . ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم ، لما يحسون من علوه وعظمته ، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته . ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون ؛ فيشفق الملائكة من غضب الله ؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير . ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا ، كالذى جاء فى سورة غافر : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا ) . . وفي هذه الحالة يبدو : كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض ، حتى من الذين آمنوا ، وكم يرتاعون لها ، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعاراً لعلوه وعظمته ؛ واستهوالاً لأية معصية تقع في ملكه ؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته ؛ وطمعاً فيهما :
( ألا إن الله هو الغفور الرحيم ) . .
فيجمع إلى العزة والحكمة ، العلو والعظمة ، ثم المغفرة والرحمة . . ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته .
قوله تعالى : " تكاد السماوات " قراءة العامة بالتاء . وقرأ نافع وابن وثاب والكسائي بالياء . " يتفطرن " قرأ نافع وغيره بالياء والتاء والتشديد في الطاء ، وهي قراءة العامة . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر والمفضل وأبو عبيد " ينفطرن " من الانفطار ، كقوله تعالى : " إذا السماء انفطرت " [ الانفطار : 1 ] وقد مضى في سورة " مريم " بيان هذا{[13461]} . وقال ابن عباس : " تكاد السماوات يتفطرن " أي تكاد كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها ، من قول المشركين : " اتخذ الله ولدا " {[13462]} [ البقرة : 116 ] . وقال الضحاك والسدي : " يتفطرن " أي يتشقق من عظمة الله وجلاله فوقهن . وقيل : " فوقهن " : فوق الأرضين من خشية الله لو كن مما يعقل .
قوله تعالى : " والملائكة يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهونه عما لا يجوز في وصفه ، وما لا يليق بجلال . وقيل : يتعجبون من جرأة المشركين ، فيذكر التسبيح في موضع التعجب . وعن علي رضي الله عنه : أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرضهم لسخط الله . وقال ابن عباس : تسبيحهم خضوع لما يرون من عظمة الله . ومعنى " بحمد ربه " : بأمر ربهم ، قاله السدي . " ويستغفرون لمن في الأرض " قال الضحاك : لمن في الأرض من المؤمنين . وقاله السدي . بيانه في سورة غافر : " ويستغفرون للذين آمنوا " {[13463]} [ غافر : 7 ] . وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش . وقيل : جميع ملائكة السماء ، وهو الظاهر من قول الكلبي . وقال وهب بن منبه : هو منسوخ بقوله : " ويستغفرون للذين آمنوا " . قال المهدوي : والصحيح أنه ليس بمنسوخ ؛ لأنه خبر ، وهو خاص للمؤمنين . وقال أبو الحسن الماوردي عن الكلبي : إن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم ، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس - وهو جد أبي نوح عليهما السلام - وسألاه أن يدعو لهما ، سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم . قال أبو الحسن بن الحصار : وقد ظن بعض من جهل أن هذه الآية نزلت بسبب هاروت وماروت ، وأنها منسوخة بالآية التي في المؤمن ، وما علموا أن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين خاصة ، ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الأرض . الماوردي : وفي استغفارهم لهم قولان : أحدهما : من الذنوب والخطايا ، وهو ظاهر قول مقاتل . الثاني : أنه طلب الرزق لهم والسعه عليهم . قاله الكلبي .
قلت : وهو أظهر ، لأن الأرض تعم الكافر وغيره ، وعلى قول مقاتل لا يدخل فيه الكافر . وقد روي في هذا الباب خبر رواه عاصم الأحول عن أبي عثمان عن سلمان قال : إن العبد إذا كان يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة : صوت معروف من آدمي ضعيف ، كان يذكر الله تعالى في السراء فنزلت به الضراء ، فيستغفرون له . فإذا كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء . قالت الملائكة : صوت منكر من آدمي كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء فلا يستغفرون الله له . وهذا يدل على أن الآية في الذاكر لله تعالى في السراء والضراء ، فهي خاصة ببعض من في الأرض من المؤمنين . والله أعلم . ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا " {[13464]} [ فاطر : 41 ] - إلى أن قال إن كان حليما غفورا " ، وقوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " {[13465]} [ الرعد : 6 ] . والمراد الحلم عنهم وألا يعالجهم بالانتقام ، فيكون عاما . قاله الزمخشري . وقال مطرف : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين . وقد تقدم{[13466]} . " ألا إن الله هو الغفور الرحيم " قال بعض العلماء : هيَّب وعظم جل وعز في الابتداء ، وألطف وبشر في الانتهاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.