في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

27

ثم ألوان الناس . وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر . فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه . بل متميز من توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة !

وكذلك ألوان الدواب والأنعام . والدواب أشمل والأنعام أخص . فالدابة كل حيوان . والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان . والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء .

هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول :

إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله :

( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . .

وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب . ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية . يعرفونه بآثار صنعته . ويدركونه بآثار قدرته . ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه . ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً ، ويعبدونه حقاً . لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون . ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر . . وهذه الصفحات نموذج من الكتاب . . والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب . العلماء به علماً واصلاً . علماً يستشعره القلب ، ويتحرك به ، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل .

إن عنصر الجمال يبدو مقصوداً قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها . هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح . ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ، لتنشأ الثمار . وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها ! . . والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه ، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان . وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال .

الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض .

( إن الله عزيز غفور ) . .

عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء . غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ، وهم يرون بدائع صنعته .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

" ومن الناس والدواب " وقرئ : " والدواب " مخففا . ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : " ولا الضألين " لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين ، فحرك ذلك أولهما ، وحذف هذا آخرهما . قاله الزمخشري . " والأنعام مختلف ألوانه " أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك ، وكل ذلك دليل على صانع مختار . وقال : " مختلف ألوانه " فذكر الضمير مراعاة ل " من " . قاله المؤرج . وقال أبو بكر بن عياش : إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى " ما " مضمرة ، مجازه : ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه ، أي أبيض وأحمر وأسود . " وغرابيب سود " قال أبو عبيدة : الغربيب الشديد السواد ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : ومن الجبال سود غرابيب . والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب : أسود غربيب . قال الجوهري : وتقول هذا أسود غربيب ، أي شديد السواد . وإذا قلت : غرابيب سود ، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبغض الشيخ الغربيب ) يعني الذي يخضب بالسواد . قال امرؤ القيس :

العين طامحةٌ واليد سابحة *** والرِّجْلُ لافحة والوجه غربيب{[13141]}

وقال آخر يصف كَرْمًا :

ومن تعاجيب خلق الله غاطيةٌ *** يعصر منها مُلاَحِيٌّ وغربيب{[13142]}

قوله تعالى : " كذلك " هنا تمام الكلام ، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ، " إنما يخشى الله من عباده العلماء " يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته ، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية ، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إنما يخشى الله من عباده العلماء " قال : الذين علموا أن الله على كل شيء قدير . وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم . وقال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عز وجل . وعن ابن مسعود : كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا . وقيل لسعد بن إبراهيم : من أفقه أهل المدينة ؟ قال أتقاهم لربه عز وجل . وعن مجاهد قال : إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل . وعن علي رضي الله عنه قال : إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره ، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا علم لا فقه فيه ، ولا قراءة لا تدبر فيها . وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - إنما يخشى الله من عباده العلماء . إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل . قال الدارمي : وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد{[13143]} أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال : إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل ، ويتفقهون لغير العبادة ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون جلود الضأن ، قلوبهم أمر من الصبر ، فبي يغترون ، وإياي يخادعون ، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران . خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب{[13144]} . الزمخشري : فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ " إنما يخشى اللهُ " بالرفع " من عباده العلماءَ " بالنصب ، وهو عمر بن عبد العزيز . وتحكى عن أبي حنيفة .

قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده . " إن الله عزيز غفور " تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم . والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى .


[13141]:هذه رواية الأصول. والبيت كما ورد في ديوانه طبع مطبعة الاستقامة: واليد سابحة والرجل ضارحة *** والعين قادحة والمتن سلحوب والماء منهمر والشدّ منحدر *** والقصب مضطمر واللون غربيب قوله "سابحة" يعني إذا جرى فرسه مد يديه فكأنه سابح في الماء. وضرحت الدابة برجلها: رمحت. وقدحت العين: غارت. والمتن: الظهر. وقوله " سلحوب" بالسين، وفسر بأنه أملس قليل اللحم. وهذا التفسير لم نجده لهذه الكلمة في المظان التي بين أيدينا. والرواية فيه "ملحوب" بالميم. ولحب متن الفرس وعجزه: املاس في حدور. ومتن لحوب. و"الشدّ " العدو. و "القصب" بالضم: الخصر. و مضطمر" ضامر.
[13142]:الغاطية: الشجرة التي طالت أغصانها وانبسطت على الأرض. و "ملاحيّ ": أبيض.
[13143]:في الأصول:" جرير بن يزيد" وهو تحريف راجع تهذيب التهذيب وسنن الدارمي.
[13144]:راجع ج 1 ص 19 فما بعد.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

قوله : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي وكذلك الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها . فالناس فيهم السود والبيض والسمر . وفيهم أولو بشرة صفراء وحمراء ، وفيهم ما بين ذلك من الألوان وكذلك الدواب : جمع دابة ، وهي كل حيوان دبّ على الأرض{[3866]} ، والأنعام من باب عطف الخاص على العام . والمراد بها الإبل والبقر والغنم . فذلك كذلك ألوانه مختلفة كاختلاف ألوان الناس . والهاء في قوله : { أَلْوَانُهُ } تعود على موصوف محذوف وتقديره : خَلْق مختلف ألوانه . و { أَلْوَانُهُ } مرفوع على أنه فاعل لاسم الفاعل ، { مُخْتَلِفٌ } {[3867]} .

على أن ما ذُكر في الآية من إخراج الثمرات بألوانها وطعومها وروائحها المختلفة ، وما في الجبال من طرائق مختلفة الأشكال والألوان ، فإن ذلك كله يدل على قدرة الصانع الحكيم ذي القوة والجلال والملكوت الذي تذعن له القلوب والنواصي بالخشية والخضوع والطاعة والعبادة .

قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } أولئك أهل النباهة والفطانة والتقوى الذين آمنوا بالله ورسوله ، وأيقنوا بالمعاد في اليوم الآخر وأن الله جامع الناس ليوم لا ريب فيه . أولئك الذين يخشون الله ويحرصون أشد الحرص على طاعته والتزام أوامره وشرائعه سبحانه .

قال ابن عباس في تأويل الآية : العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا وأحل حلاله وحرّم حرامه وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله .

وقال الحسن البصري : العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغَّب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه .

وقال الزمخشري في تأويل الآية : المراد بالعلماء به الذين علموه صفاته وعدله وتوحيده ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه وقدروه حق قدره وخشوه حق خشيته .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } الله قوي ذو بأس شديد ، قاهر للعصاة والمستكبرين . ومنتقم من الطغاة المتجبرين . وهو سبحانه غفار لذنوب عباده التائبين المستغفرين{[3868]}


[3866]:المصباح المنير ج 1 ص 210
[3867]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 288
[3868]:الكشاف ج 3 ص 306-307 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 553