في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .

وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك ، تحت النزوات والاندفاعات . تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق ، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة ، قبل التثبت والاستيقان .

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات ، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة ، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق . ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح . والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح .

والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين . ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما ، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى ، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب .

وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين . فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن ، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله . وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين ، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه ، وأدى إلى الخصام والقتال . فإذا تم قبول البغاة لحكم الله ، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه . . ( إن الله يحب المقسطين ) . .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

فيه عشر مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال : قلت : يا نبي الله ، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فركب حمار وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك . فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت في الأوس والخزرج . قال مجاهد : تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية . ومثله عن سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه ، فأنزل الله هذه الآية فيهم . وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة{[14077]} في حق بينهما فقال أحدهما : لآخذن حقي عنوة ، لكثرة عشيرته . ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف ، فنزلت هذه الآية . وقال الكلبي : نزلت في حرب سُمير وحاطب{[14078]} ، وكان سمير قتل حاطبا ، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت . وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما . وقال السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل من غير الأنصار ، فتخاصمت مع زوجها ، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى قومها ، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا وتجالدوا{[14079]} بالنعال ، فنزلت الآية . والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين ، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله " حتى يفيؤوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط " . وقرأ ابن أبي عبلة " اقتتلتا " على لفظ الطائفتين . وقد مضى في آخر " التوبة " القول فيه{[14080]} . وقال ابن عباس في قوله عز وجل : " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " {[14081]} [ الروم : 2 ] قال : الواحد فما فوقه ، والطائفة من الشيء القطعة منه . " فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما . " فإن بغت إحداهما على الأخرى " تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه . والبغي : التطاول والفساد . " حتى تفيء إلى أمر الله " أي ترجع إلى كتابه . " فإن فاءت " أي فإن رجعت " فأصلحوا بينهما بالعدل " أي احملوهما على الإنصاف . " وأقسطوا " أقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا . وقيل : أقسطوا أي اعدلوا . " إن الله يحب المقسطين " أي العادلين المحقين .

الثانية- قال العلماء : لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما ، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا . فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة . فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما . وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل . فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . والله أعلم .

الثالثة- في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين . وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ، واحتج بقوله عليه السلام : [ قتال المؤمن كفر ] . ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر ، تعالى الله عن ذلك وقد قاتل الصديق رضي الله عنه : من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مُولٍّ ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار . وقال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : [ خذوا على أيدي سفهائكم ] .

الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : [ تقتل عمارا{[14082]} الفئة الباغية ] . وقوله عليه السلام في شأن الخوارج : [ يخرجون على خير فرقة أو على حسين فرقة ] ، والرواية الأولى أصح ، لقوله عليه السلام : [ تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق ] . وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه . فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما ، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتال واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ، لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه ؛ لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة . ثم لم يمكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر{[14083]} في الشورى ، وتدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة{[14084]} على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل . فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام . فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم ، فقال لهم علي رضي الله عنه : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه . فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساءً . فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد{[14085]} البيعة ، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق . ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة . وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى .

قلت : فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم . وقال جلة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به ، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم ، وتم الصلح والتفرق على الرضا . فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ، ويبدؤوا بالحرب سحرة في العسكرين ، وتختلف السهام بينهم ، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي : غدر طلحة والزبير . والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير : غدر علي . فتم لهم ذلك على ما دبروه ، ونشبت الحرب ، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه ، ومانعا من الإشاطة{[14086]} بدمه . وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى ، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل . وهذا هو الصحيح المشهور . والله أعلم .

الخامسة- قوله تعالى : " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " أمر بالقتال . وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات ، كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرهم . وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه . ويروي أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الأمر ، عاتب سعدا على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية . فقال له سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية . فتبين أنه ليس على الكل درك{[14087]} فيما فعل ، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع . والله أعلم .

السادسة- قوله تعالى : " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل " ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال ، فإنه تلف على تأويل . وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء{[14088]} في البغي . وهذا أصل في المصلحة . وقد قال لسان الأمة : إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل ، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله .

السابعة- إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها ، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية ، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة ، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا . ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يُذَفَّفُ{[14089]} على جريحهم ، ولا تُسْبَى ذراريهم ولا أموالهم . وإذا قتل العادل الباغي ، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا . ولا يرث قاتل عمدا على حال . وقيل : إن العادل يرث الباغي ، قياسا على القصاص .

الثامنة- وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به . وقال أبو حنيفة : يضمنون . وللشافعي قولان . وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان . والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة .

وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ] ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فقال : [ لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب طلب هاربها ولا يقسم فيئها ] . فأما ما كان قائما رد بعينه .

هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له . وذكر الزمخشري في تفسيره : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن ، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت . وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع . فحمل الإصلاح بالعدل في قوله : " فأصلحوا بينهما بالعدل " على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل . وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد . والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول ؟ قلت : لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة ، إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة ، وأما الضمان فلا يتجه . وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين .

التاسعة- ولو تغلبوا ( أي البغاة ) على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام ، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود ، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع ، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة ، قاله مطرف وابن الماجشون . وقال ابن القاسم : لا تجوز بحال . وروي عن أصبغ أنه جائز . وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم . وبه قال أبو حنيفة ، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته . فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة . والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم ، لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح ، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم . قال ابن العربي : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ، لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم .

العاشرة- لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم ، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر ، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم . هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا . وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه ، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة ، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه . ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار . وقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ بشر قاتل ابن صفية بالنار ] . وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا أثمين بالقتال ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة : [ شهيد ] . ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار . وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل . بل صواب أراهم الله الاجتهاد . وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم ، وإبطال فضائلهم وجهادهم ، وعظيم غنائهم في الدين ، رضي الله عنهم . وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال : " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " {[14090]} [ البقرة : 141 ] . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال : تلك دماء طهر الله منها يدي ، فلا أخضب بها لساني . يعني في التحرز من الوقوع في خطأ ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه . قال ابن فورك : ومن أصحابنا من قال : إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف ، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة ، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة . وقال المحاسبي : فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم . وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا . قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ، ونسأل الله التوفيق .


[14077]:تدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا.
[14078]:راجع خبر حربهما في كتاب الكامل لابن الأثير ج 1 ص 494 طبع أوربا.
[14079]:تجالدوا: تضاربوا.
[14080]:راجع ج 8 ص 294.
[14081]:آية 2 سورة النور.
[14082]:هو عمار بن ياسر.(راجع خبره في كتب الصحابة).
[14083]:زيادة عن ابن العربي.
[14084]:الحوطة والحيطة: الاحتياط.
[14085]:في ابن العربي: "الأمن".
[14086]:الإشاطة: الإهلاك. يقال: أشاط فلان دم فلان إذا عرضه للهلاك.
[14087]:الدرك(بفتح الراء وسكونها): التبعة.
[14088]:استشرى الرجل في الأمر: لج. والأمور: تفاقمت وعظمت.
[14089]:تذفيف الجريح: الإجهاز عليه وتحرير قتله.
[14090]:134 سورة البقرة.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } اختلف في سبب نزولها ، فقال الجمهور : هو ما وقع بين المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبي بن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فبال حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي للنبي صلى الله عليه وسلم لقد آذاني نتن حمارك فرد عليه عبد الله بن رواحة وتلاحا الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد ، وقيل : بالحديد ، وقيل : سببها أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ثم حكمها باق إلى آخر الدهر وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس ، فهي في معنى الجمع .

{ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية ، وذلك إذا تبين أنها باغية فأما الفتن التي تقع بين المسلمين ، فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما : أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال وهو مذهب سعد بن أبي وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتال المسلم كفر " . وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن .

والقول الثاني : أن النهوض فيها واجب لتكف الطائفة الباغية ، وهذا قول علي وعائشة وطلحة والزبير وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتهم هذه الآية فإذا فرغنا على القول الأول ، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدى ذلك إلى قتله لقوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد " ، وإذا فرعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفتن فقيل : مع السواد الأعظم وقيل : مع العلماء ، وقيل : مع من يرى أن الحق معه ، وحكم القتال في الفتن أن لا يجهز على جريح ولا يطلب هارب ، ولا يقتل أسير ، ولا يقسم فئ .

{ حتى تفيء } أي : ترجع إلى الحق .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

ولما كانت النميمة ونقل الأخبار الباطلة الذميمة ربما جرت فتناً وأوصلت إلى القتال ، وكان {[60803]}العليم الحكيم{[60804]} لا ينصب سبباً إلا ذكر مسببه وأشار إلى دوائه{[60805]} ، وكان لا ينهى عن الشيء إلا من كان متهيئاً له لما في جبلته من الداعي إليه ، فكان قد يواقعه ولو في وقت ، قال تعالى معلماً لنا طريق الحكمة{[60806]} في دفع ما جرت إليه{[60807]} الأخبار الباطلة من القتال ، معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن ما-{[60808]} في حيزها لا ينبغي أن يقع بينهم ، ولا أن يذكروه إلا على سبيل الفرض : { وإن طائفتان } أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما-{[60809]} دهمها{[60810]} من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به ، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها { من المؤمنين } أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق{[60811]} عليه به الاسم فقط .

ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر ، عبر بضمير الجمع دون {[60812]}التثنية تصويراً{[60813]} لذلك بأقبح صورة فقال : { اقتتلوا } أي-{[60814]} فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة { فأصلحوا } أي فأوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح . ولما كانت{[60815]} العبرة في الصلح إذا وقع بين الطائفتين ما يسكن به الشر وإن تخلف شذان من الجانبين لا يعبأ بهم ، عبر بالتثنية دون الجمع فقال : { بينهما } أي بالوعظ والإرشاد الدنيوي والأخروي ، ولا تظنوا أن الباغي غير مؤمن فتتجاوزوا فيه أمر الله .

ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لا يلم به أحد ، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال : { فإن بغت } أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير { إحداهما } أي الطائفتين { على الأخرى } فلم ترجع إلى حكم الله الذي{[60816]} خرجت عنه ولم تقبل الحق . ولما كان الإضمار هنا ربما أوهم لبساً فتمسك به متعنت في أمر فساد ، أزال بالإظهار كل لبس فقال : { فقاتلوا } أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة { التي } .

ولما كان القتال لا يجوز إلا بالاستمرار على البغي ، عبر بالمضارع إفهاماً لأنه متى زال البغي ولو بالتوبة{[60817]} من غير شوكة حرم القتال فقال : { تبغي } أي توقع الإرادة وتصر عليها ، وأديموا القتال لها { حتى تفيء } أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة الذي كأنه حر الشمس حين نسخه الظل إلى ما كانت فيه{[60818]} من البر والخير الذي هو كالظل الذي ينسخ الشمس ، وهو معنى قوله تعالى : { إلى أمر الله } أي التزام{[60819]} ما أمر{[60820]} به الملك الذي لا يهمل الظالم ، بل لا بد أن يقاصصه وأمره ما {[60821]}كانت عليه{[60822]} من العدل قبل البغي . ولما كانت مقاتلة الباغي جديرة بترجيعه ، أشار إلى ذلك بقوله : { فإن فاءت } أي رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل { فأصلحوا } أي أوقعوا الإصلاح { بينهما } .

ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين ، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض ، قال : { بالعدل } ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا . ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى : { وأقسطوا } أي وأزيلوا القسط - بالفتح وهو الجور - بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه ، في ذلك وفي جميع أموركم ، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به{[60823]} ، وردّاً على من لعله يقول : إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف : { إن الله } أي الذي بيده النصر والخذلان { يحب المقسطين * } أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب .


[60803]:في مد:الحكيم العليم.
[60804]:في مد: الحكيم العليم.
[60805]:من مد، وفي الأصل: رواية.
[60806]:من مد، وفي الأصل: الحق.
[60807]:من مد، وفي الأصل: به.
[60808]:زيد من مد.
[60809]:زيد من مد.
[60810]:زيد من مد.
[60811]:من مد، وفي الأصل: دهمهما.
[60812]:من مد، وفي الأصل: ينطلق.
[60813]:من مد، وفي الأصل: التبنية.
[60814]:من مد، وفي الأصل: التبنية.
[60815]:في مد: كان.
[60816]:من مد، وفي الأصل: التي.
[60817]:من مد، وفي الأصل: بالنوصيه.
[60818]:من مد، وفي الأصل: إليه.
[60819]:زيد من مد.
[60820]:من مد، وفي الأصل: أراد.
[60821]:من مد، وفي الأصل: كان.
[60822]:من مد، وفي الأصل: كان.
[60823]:من مد، وفي الأصل: فيه.