سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع ! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف !
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار !
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد !
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور !
وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعا . إلى الله . فتستقر هناك : ( إن ربك بهم يومئذ لخبير ) . . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار .
( والعاديات ضبحا ، فالموريات قدحا ، فالمغيرات صبحا ، فأثرن به نقعا ، فوسطن به جمعا . . إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد . . . )
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة ، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري ،
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ }
أقسم الله تبارك وتعالى بالخيل ، لما فيها من آيات الله الباهرة ، ونعمه الظاهرة ، ما هو معلوم للخلق .
وأقسم [ تعالى ] بها في الحال التي لا يشاركها [ فيه ] غيرها من أنواع الحيوانات ، فقال : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } أي : العاديات عدوًا بليغًا قويًا ، يصدر عنه الضبح ، وهو صوت نفسها في صدرها ، عند اشتداد العدو{[1467]} .
وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء . ومدنية في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة . وهي إحدى عشرة آية .
قوله تعالى : { والعاديات ضبحا } أي الأفراس تعدو ، كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة ، أي تعدو في سبيل الله فتضبح . قال قتادة : تضبح إذا عدت ، أي تحمحم . وقال الفراء : الضبح : صوت أنفاس الخيل إذا عدون . ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب . وقيل : كانت تُكْعَمْ{[16284]} لئلا تصهل ، فيعلم العدو بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة . قال ابن العربي : أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال :{ يس . والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ] ، وأقسم بحياته فقال :{ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }{[16285]} [ الحجر : 72 ] ، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها ، وقدح حوافرها النار من الحجر ، فقال : { والعاديات ضبحا } . . . الآيات الخمس . وقال أهل اللغة{[16286]} :
وطعنةٍ ذات رَشاشٍ واهِيَهْ*** طَعَنْتها عندَ صُدُورِ العاديهْ
والعاديات أسابيُّ الدماء بها *** كأن أعناقها أنصاب ترجِيبِ{[16287]}
والخيل تعلم حين تَضْ*** بَحُ في حياض الموت ضَبْحَا
لستُ بالتُّبَّعِ اليَمَانِي إن لَمْ *** تَضْبَحِ الخَيْلُ في سواد العراق
وقال أهل اللغة : وأصل الضبح والضباح للثعالب ، فاستعير للخيل . وهو من قول العرب : ضبحته النار : إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه . وقال الشاعر :
فلما أن تَلَهْوَجْنَا شِوَاءً *** به اللَّهَبان مقهورا ضَبِيحاً{[16288]}
وانضبح لونه : إذا تغير إلى السواد قليلا . وقال :
عَلِقْتُها قبل انضِبَاحِ لَوْنِي
وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع . ونصب " ضبحا " على المصدر ، أي والعاديات تضبح ضبحا . والضبح{[16289]} أيضا الرماد . وقال البصريون : " ضبحا " نصب على الحال . وقيل : مصدر في موضع الحال . قال أبو عبيدة : ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت ، وهو السير . وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع : بمعنى العدو والسير . وكذا قال المبرد : الضبح مد أضباعها في السير . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة ، فأبطأ عليه خبرها ، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد النقباء ، فقال المنافقون : إنهم قتلوا ، فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها ، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم . وممن قال : إن المراد بالعاديات الخيل ، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد . والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون . وفي الخبر : " من لم يعرف حرمة فرس الغازي ، فيه شعبة من النفاق " . وقول ثان : إنها الإبل . قال مسلم : نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة : قال ابن عباس : هي الخيل . وقلت : قال علي : هي الإبل في الحج ، ومولاي أعلم من مولاك . وقال الشعبي : تمارى{[16290]} علي وابن عباس في " العاديات " ، فقال علي : هي الإبل تعدو في الحج . وقال ابن عباس : هي الخيل ، ألا تراه يقول { فأثرن به نقعا } [ العاديات : 4 ] فهل تثير إلا بحوافرها ! وهل تضبح الإبل ! فقال علي : ليس كما قلت ، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، ثم قال له علي : أتفتي الناس بما لا تعلم ! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان : فرس للمقداد ، وفرس للزبير ، فكيف تكون العاديات ضبحا ! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى عرفة . قال ابن عباس : فرجعت إلى قول علي ، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي . ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب :
فلا والعاديات غداةَ جَمْعٍ *** بأيديها إذا سَطَعَ الغُبَارُ
يعني الإبل . وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو ، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي . وقال آخر :
رأى صاحبي في العاديات نَجِيبَةً *** وأمثالَها في الواضعات القَوَامِسِ{[16291]}
ومن قال هي الإبل فقوله " ضبحا " بمعنى ضبعا ، فالحاء عنده مبدلة من العين ؛ لأنه يقال : ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير . وقال المبرد : الضبع مد أضباعها في السير . والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل . والضبع في الإبل . وقد تبدل الحاء من العين . أبو صالح : الضبح من الخيل : الحمحمة ، ومن الإبل التنفس . وقال عطاء : ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب . وروي عن ابن عباس . وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول : ضبح الثعلب ، وضبح في غير ذلك أيضا . قال توبة :
ولو أن ليلَى الأخيلِية سَلَّمَتْ *** عَلَيَّ ودوني تُرْبَةٌ{[16292]} وصفائحُ
لسلَّمْتُ تسليم البشاشة أو زَقَا *** إليها صَدىً من جانب القبر ضَابِحُ{[16293]}
زقا الصدى يزقو زقاء{[16294]} : أي صاح . وكل زاق صائح . والزقية : الصيحة .
{ والعاديات ضبحا 1 فالموريات قدحا 2 فالمغيرات صبحا 3 فأثرن به نقعا 4 فوسطن به جمعا 5 إن الإنسان لربه لكنود 6 وإنه على ذلك لشهيد 7 وإنه لحب الخير لشديد 8 أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور 9 وحصّل ما في الصدور 10 إن ربهم بهم يومئذ لخبير } .
ذلك قسم من الله بجزء مما خلق وهي الخيل . وهذا الصنف من الخلق كان عدة المجاهدين في الأزمنة الخالية في مجاهدتهم الكفر والكافرين . لقد كان هذا الصنف من المراكب وسيلة عظيمة يمتطيها الرجال وهم يغيرون على الظالمين لصدهم عن دين الله ، ولكفّ أذاهم وعدوانهم عن بلاد المسلمين . يقسم الله بهذا الصنف من الخلق ، وهي الخيل العادية الضابحة المغيرة بقوله : { والعاديات ضبحا } ضبحا منصوب على المصدر في موضع الحال{[4847]} . والمراد بالعاديات ، الخيل أو الأفراس التي تعدو { ضبحا } أي وهي تحمحم . وذلك من الضّبح ، وهو صوت أنفاس الخيل إذا عدت{[4848]} وقيل : المراد بها الإبل . والمعنى الأول أظهر وهو الذي عليه أكثر المفسرين .