هذا هو الكتاب في ذاته . وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة ، اصطفاها لهذه الوراثة ، كما يقول هنا في كتابه :
( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) . .
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله ؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة . وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب ?
إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة ؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء :
( فمنهم ظالم لنفسه . ومنهم مقتصد . ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) . .
فالفريق الأول - ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً - ( ظالم لنفسه )تربى سيئاته في العمل على حسناته . والفريق الثاني وسط( مقتصد )تتعادل سيئاته وحسناته . والفريق الثالث ( سابق بالخيرات بإذن الله ) ، تربى حسناته على سيئاته . . ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً . فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية . على تفاوت في الدرجات .
ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها ، وكرم الله سبحانه في جزائها . فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جيمعاً - بفضل الله - ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله .
نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره الله لهذه الأمة بصنوفها الثلاثة من حسن الجزاء :
{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير }
ثم أورثنا الكتاب : أعطيناه بلا تعب ولا مشقة كما يعطى الميراث .
اصطفيناه : اخترنا واشتقاقه من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر .
ظالم لنفسه : الظلم تجاوز الحد أو من رجحت سيئاته على حسناته .
مقتصد : متوسط أو هو من تساوت حسناته مع سيئاته .
سابق بالخيرات : سبق غيره بعمل الخير أو هو من رجحت حسناته على سيئاته .
جمهور المفسرين على أن هذه الفئات الثلاث من المؤمنين من هذه الأمة وبعضهم فسر الظالم لنفسه بالكافر وقد سئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون وأما الكافرون فصفتهم بعد هذا وهو قوله تعالى : والذين كفروا لهم نار جهنم . . . ( فاطر : 36 ) .
ومعنى الآية مع ما قبلها : الذي أوحيناه إليك من القرآن الكريم هو الحق وقد أورثنا هذا الكتاب أصحابك من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن يسير سيرتهم إلى يوم القيامة .
اصطفينا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلناها أمة وسطا وزودناها بميراث عظيم هو هذا القرآن الكريم المشتمل على العبادات والمعاملات والآداب والأخبار عن الأمم السابقة والبيان الجميل والإعجاز في عرض أدلة القدرة وبيان جمال الكون وإبداع الخلق ومظاهر البعث والقيامة .
وقد ورث القرآن طوائف ثلاث : طائفة ظلمت نفسها بارتكاب المعاصي أو التقصير في حق هذا الكتاب وطائفة مقتصدة متوسطة ، تعمل بالقرآن حينا وتهمل حينا آخر وطائفة سباقة للخير بإذن الله وتوفيقه فهي حريصة على الكتاب والعمل بما فيه والمسابقة إلى تلاوته وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه بإذن ربها وعنايته وهدايته .
روى عن عمر رضي الله عنه قال – وهو على المنبر- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له " . xii
وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرة أفراده وأن المقتصدين قليل بالنظر إليهم والسابقين أقل من القليل وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله وآخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد .
ونلاحظ أن القران الكريم في سورة الواقعة بدأ بالسابقين فقال تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين . ( الواقعة : 13-14 ) .
وثنى بأصحاب اليمين وقال عنهم : ثلة من الأولين* وثلة من الآخرين . ( الواقعة : 39-40 ) .
ثم تكلم عن أصحاب الشمال وذكر أنهم في جهنم .
كما ذكر القرآن الكريم أن السابقين قلة ، حين قال : وقليل من عبادي الشكور . ( سبأ : 13 ) .
وقال عز شأنه : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله . ( الأنعام : 116 ) .
ولعل من المناسب أن نقول إن القرآن الكريم يبدأ في كل حالة بما يناسبها ففي سورة البقرة مثلا بدأ بالمؤمنين وثنى بالكافرين ثم تحدث طويلا عن المنافقين وعن شياطينهم وضرب أمثلة توضح حالهم فكل سياق حكمته وطريقته ومناسبته .
ولما كان معنى الوصفين : فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلاً للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا ، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم ، قال عطفاً على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم ، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين : { ثم أورثنا } أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه ، وعبر في غير هذه الأمة بقوله
{ ورثوا الكتاب }[ الأعراف : 169 ] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين ، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك : وأورثناكه ثم أورثناه ، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن " من " في { أوحينا إليك من } للبيان فقال : { الكتاب } أي القرآن باتفاق المفسرين ، قاله الأصفهاني - الجامع لكل كتاب أنزلنا ، فهو أم لكل خير ، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي : إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله { الذين اصطفينا } أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك { من عبادنا } أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم - نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقل عن ابن جرير أنه قال : الإرث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، فثم هنا للترتيب ، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان ، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن ، فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها ، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط ، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون .
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان ، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم ، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس ، ويصدع القلوب خوف البأس : { فمنهم } أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد { ظالم لنفسه } أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر ، وهذا القسم هم أكثر الوراث وهم المرجئون لأمر الله .
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة ، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال : { ومنهم مقتصد } أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً { ومنهم سابق بالخيرات } أي العبادات وجميع أنواع القربات ، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً ، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا ، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ويؤيد هذا قول الحسن : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، والظالم من رجحت سيئاته . وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة ، وليكونوا أقرب إلى الجنات ، كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر ، وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الأعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار ، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً ، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله ، وهذا على تقدير عود الضمير في { منهم } على { الذين } لا على { العباد } وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هم التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر - وإن كانت ضعيفة - عن الصلاحية لتقوية ذلك ، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : " أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة " - ثم قرأ { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } . وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلهم من هذه الأمة " وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه بغير سند : وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : " كلهم في الجنة "
وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد . وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها ، وقال قتادة : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابقون المقربون .
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات ، أشار إلى عظمته بقوله : { بإذن الله } أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في اللوامع : ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته ، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره - انتهى . ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا ، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه : { ذلك } أي السبق أو إيراث الكتاب { هو } مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل { الفضل الكبير * } .