وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللمسلمين ، الذين يعيشون بينهم متخفين ؛ يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون :
ولو نشاء لأريناكهم ، فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول ، والله يعلم أعمالكم . ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم . .
ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ) . . أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم ، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه [ وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم ] ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم ، وإمالتهم للقول عن استقامته ، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) . .
ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها : ( والله يعلم أعمالكم ) . . فلا تخفى عليه منها خافية . .
ثم وعد من الله بالابتلاء . . ابتلاء الأمة الإسلامية كلها ، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح
أخبارهم معروفة ، ولا يقع الالتباس في الصفوف ، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين ولا أمر الضعاف والجزعين :
29 ، 30- { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } . كان المنافقون في المدينة طابورا خامسا ، وشوكة في جنب المسلمين ، يشوشون على المسلمين ، ويحزنون إذا انتصروا ، ويشيعون عنهم أقاويل السوء ، ويضمرون لهم العداوة والبغضاء .
وفي هاتين الآيتين يهددهم الله بأن يكشف أسرارهم ، وأن يظهر للمسلمين حقدهم وضغنهم ، وخبايا نفوسهم ، ومكنونات قلوبهم المريضة العليلة بالضغن والحقد .
ولو أراد الله تعالى لكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم عن أسمائهم وأشخاصهم وعلاماتهم ، لكن الله تعالى سترا منه على عباده ، أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بصفاتهم العامة ، لا بأسمائهم ، كما أعلمه بطريقتهم في لحن القول ، وهو إسرار شيء متفق عليه لا يفهمه إلا صاحب لهم ، قد بيتوا الأمر معه على طريقة في القول ، يلحنون بها لحنا معينا ، يفهم منه ما يريدون ، ولا يعرف ذلك الآخرون .
لحن القول : فحواه ومقصده ومغزاه ، وهو هنا : ما يعرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين ، وقد قيل : كان بعد هذا لا يتلكم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه .
لا تخفى عليه منها خافية ، فيجازيكم بها . اه .
ونلحظ أنه لا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين وكشف أمورهم ، حتى سميت سورة براءة بالكاشفة والفاضحة والمبعثرة ، لأنها كشفت المنافقين وفضحتهم وبعثرتهم ، بقولها : { ومنهم } . . . { ومنهم } . . . { ومنهم } .
مثل قوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } . ( التوبة : 58 ) .
ومثل قوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } . ( التوبة : 49 ) .
وهكذا كشف القرآن الكريم أمر المنافقين ، وأظهر كيدهم ، وألقى عليهم الأضواء الكاشفة ليحذر المسلمون منهم .
وروى ابن كثير أن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قال : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وفي الحديث : ( ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر )7 .
ولتعرفنّهم في لحن القول : في أسلوبه الذي يتكلمون به ومغزاه .
ولو نشاء لعرّفناك يا محمد أشخاصَهم ، فعرفَته بعلاماتٍ خاصة بهم .
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول }
وأُقسِم أيّها الرسول ، لتعرفنّهم في أسلوب كلامهم المعوج ، { والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } .
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول الكريم كان يعرفهم جميعا ، وقد عرّفهم إلى حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه .
قوله تعالى :{ ولو نشاء لأريناكهم } أي لأعلمناكم وعرفناكهم ، { فلعرفتهم بسيماهم } بعلامتهم ، قال الزجاج : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها . قال أنس : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم . { ولتعرفنهم في لحن القول } في معناه ومقصده . واللحن : وجهان صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لحن يلحن لحناً فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " . والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن . والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته . والمعنى : إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله ، ويستدل بفحوى كلامه على فساد خلقه وعقيدته .
" ولو نشاء لأريناكهم " أي لعرفناكهم . قال ابن عباس : وقد عرفه إياهم في سورة " التوبة " {[13956]} . تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي سأعلمك ، ومنه قوله تعالى : " بما أراك الله " {[13957]} [ النساء : 105 ] أي بما أعلمك . " فلعرفتهم بسيماهم " أي بعلاماتهم . قال أنس . ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم . وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم{[13958]} الناس ، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب ( هذا منافق ) فذلك سيماهم . وقال ابن زيد : قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله ، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها . " ولتعرفنهم في لحن القول " أي في فحواه ومعناه . ومنه قول الشاعر :
أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به . مأخوذ من اللحن في الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ] أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام . أبو زيد : لحنت له ( بالفتح ) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره . ولحنه هو عني ( بالكسر ) يلحنه لحنا أي فهمه . وألحنته أنا إياه ، ولاحنت الناس فاطنتهم ، قال الفزاري :
وحديثٍ ألذُّه هو مما *** ينعَت الناعتون يوزن وزنا
منطقٌ رائع وتلحَنُ أحيانا *** وخير الحديث ما كان لَحْنَا
يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره ، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها . وقد قال تعالى : " ولتعرفنهم في لحن القول " . وقال القتال الكلابي :
ولقد وَحَيْت{[13959]} لكم لكَيْما تفهموا *** ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
ولحنتِ لحنًا فيه غِشٌّ ورابني *** صدودُك تُرْضين الوشاةَ الأعادِيَا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه . وقيل : كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد ، فنبهه الله تعالى عليه ، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم . قال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه . " والله يعلم أعمالكم " أي لا يخفى عليه شيء منها .
قوله : { ولو نشاء لأريناكهم } لو نشاء لعرفناك أشخاص هؤلاء المنافقين فعرفتهم عيانا { فلعرفتهم بسيماهم } أي فلتعرفنهم بعلامات النفاق التي تبدوا من سلوكهم وتصرفهم ، في نظراتهم وخطابهم وقسمات وجوههم { ولتعرفنهم في لحن القول } و { لحن القول } فحواه ومعناه{[4245]} أي فلتعرفنهم مما يبدو من كلامهم الذي يكشف عن مقاصدهم وأسرارهم . قال عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه .
قوله : { والله يعلم أعمالكم } الله خبير بما يعلمه الناس من خير أو شر فلا يخفى عليه من ذلك شيء .