ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان ، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه . وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . والتي أخذها على عاتقه ، وتعهد بحملها وحده ، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات ، وقصور العلم ، وقصر العمر ، وحواجز الزمان والمكان ، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد :
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) . .
إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .
وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .
وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب ، وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق !
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم ( كان ظلوما )لنفسه( جهولا )لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . . الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . . حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد .
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم . وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : ( ولقد كرمنا بني آدم ) . . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله . ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها . . . !
{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا( 72 ) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما( 73 ) }
عرضنا الأمانة : طلبنا القيام بحق الأمانة وهي الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية .
الأمانة : التكاليف الشرعية كالصلوات .
وحملها الإنسان : والتزم الإنسان القيام بها .
{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } .
خلق الله الكون بقدرته ورفع السماء وبسط الأرض وأرسى الجبال وسخر الهواء والفضاء وسير الشمس والقمر والليل والنهار وجعل الظلمات والنور .
وهذا الكون خاضع لله خضوع القهر والغلبة فالسماء مرفوعة والأرض مبسوطة والجبال راسية والبحار جارية ، والليل مظلم والنهار مضيء والشمس مسخرة والقمر منير وكل في فلك يسبحون ولا يملك أن يغير مساره أو يتمرد على وظيفته .
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } ( يس : 40 ) .
وقال تعالى : { ثم استوى على السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين } .
أي أظهرت السماء والأرض من الخضوع والامتثال لأمر الله ما لو نطق لسان حالهما لقال : أتينا طائعين فهذا الكون مسخر للطاعة الآلية ، لا يملك غير الطاعة والالتزام بدون تفكير أو امتناع عن أداء وظيفته .
أما الإنسان فقد خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض ومنحه الله العقل والإرادة والاختيار أي أنه يملك أن يطيع الله ويملك المعصية والكفر وترك الطاعات واقتراف المحرمات .
العرض في هذه الآية ضرب مثل أي أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب أي أن التكاليف أمر حقه أن تعجز السماوات والأرض والجبال عن حمله .
وقد كلف الإنسان بحمل الأمانة فقيل الالتزام بأدائها حيث أعده الله لذلك بما زوده من ملكات وغرائز وطبائع وما غرس فيه من قدرات أه .
إن الكون كله خاضع لله تعالى خضوعا تاما ، وامتثالا عمليا بدون عقل أو تفكير أو إرادة أما الإنسان فقد أعطاه الله العقل والإرادة والاختيار وتحمل المسؤولية .
وحين عرض الله تحمل الأمانة على الكون أبى أن يتحملها فلم يكن مهيأ لذلك كما تقول عرضت الأمانة على البعير فأباه أي أن قدرات البعير كانت دون تحمل هذا الحمل .
أما الإنسان فقد تحمل الأمانة وهي قبوله أن يثاب إذا أطاع وأن يعاقب إذا عصى وقد التزم بأداء الأمانة قلة قليلة .
{ وقليل من عبادي الشكور } . ( سبأ : 13 )
وقد فرط معظم أفراد بني آدم في أداء حق الأمانة حيث كان معظم أفراد الإنسان ( ظلوما ) تاركا للأمانة ( جهولا ) بقيمة أداء الأمانة حيث يكون ذلك سببا في سعادته في الدنيا والآخرة .
أي أن من أفراد الإنسان من يختار المعصية والإفساد والشر ويستحق النار وجهنم عن جدارة وفي الحديث القدسي أن الله تعالى قال للجنة والنار " ولكل واحدة منكما على ملؤها " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.