أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله ( ابتغاء مرضاة الله ) . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .
( أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) . .
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :
( فإن لم يصبها وابل ) . . غزير . . ( فطل ) من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !
إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .
ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب :
{ وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ومثل الذين ينفقون أموالهم فيصّدّقون بها ويحملون عليها في سبيل الله ويقوّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته . { وَتَثبيتا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } يعني بذلك : وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا ، من قول القائل : ثَبّتّ فلانا في هذا الأمر : إذ صححت عزمه وحققته وقوّيت فيه رأيه أثبته تثبيتا ، كما قال ابن رواحة :
فَثَبّتَ اللّهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ *** تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرا كَالّذِي نُصِرُوا
وإنما عنى الله جلّ وعزّ بذلك ، أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى ، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وصحح عزمهم وآراءهم يقينا منها بذلك ، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها . ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : { وَتَثْبِيتا } وتصديقا ، ومن قال منهم ويقينا¹ لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم ، إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : تصديقا ويقينا .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : وتصديقا من أنفسهم ثبات ونصرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : يقينا من أنفسهم . قال : التثبيت اليقين .
حدثني يونس ، قال : حدثنا عليّ بن معبد ، عن أبي معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } يقول : يقينا من عند أنفسهم .
وقال آخرون : معنى قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عليّ بن عليّ بن رفاعة ، عن الحسن في قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم ، يعني زكاتهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عليّ بن عليّ ، قال : سمعت الحسن قرأ : { ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت ، فإن كان لله مضى ، وإن خالطه شك أمسك .
وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن تأويل بعيد المعنى مما يدلّ عليه ظاهر التلاوة ، وذلك أنهم تأوّلوا قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } بمعنى : وتثبتا ، فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم . ولو كان التأويل كذلك ، لكان : وتثبتا من أنفسهم¹ لأن المصدر من الكلام إن كان على تفعلت التفعل ، فيقال : تكرمت تكرما ، وتكلمت تكلما ، وكما قال جل ثناؤه : { أوْ يأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ } من قول القائل : تخوّف فلان هذا الأمر تخوّفا . فكذلك قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } لو كان من تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام : «وتثبتا من أنفسهم » ، لا «وتثبيتا » ، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عزّ وجلّ : { وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً } ولم يقل : تبتلاً ؟ قيل : إن هذا مخالف لذلك ، وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : «تبتيلاً » لظهور «وتبتل إليه » ، فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل : تبتيلاً ، وذلك أن المتروك هو : «تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلاً » ، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدّمتها إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه ، كما قال جل وعزّ : { وَاللّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتا } وقال : { وَأنْبَتَهَا نباتا حَسَنا } والنبات : مصدر نبت ، وإنما جاز ذلك لمجيء أنبت قبله ، فدلّ على المتروك الذي منه قيل نباتا ، والمعنى : والله أنبتكم فنبّتم من الأرض نباتا . وليس قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه . ومعنى الكلام : ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها ، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : { وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً } وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها .
وقال آخرون : معنى قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } احتسابا من أنفسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } يقول : احتسابا من أنفسهم .
وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت ، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى الاحتساب ، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها . فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام ، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابلٌ فَآتَتْ أُكُلُها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } .
يعني بذلك جل وعزّ : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدّقون بها ، ويسبّلونها في طاعة الله بغير منّ على من تصدّقوا بها عليه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده ، { كَمَثَلِ جَنّةٍ } والجنة : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن الجنة البستان بما فيه الكفاية من إعادته . { بربوة } والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه ، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غُلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رقّ منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :
ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ *** خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
فوصفها بأنها من رياض الحزن ، لأن الحزون : غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها . وفي الربوة لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القراء ، وهي «رُبْوة » بضم الراء ، وبها قرأت عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق . و«رَبْوة » بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم . و«رِبْوة » بكسر الراء ، وبها قرأ فيما ذكر ابن عباس . وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح الراء ، وإما بضمها ، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارا مني بفتحها ، لأنها أشهر اللغتين في العرب¹ فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة . وإنما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت ، من قول القائل : ربا هذا الشيء يربو : إذا انتفخ فعظم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : الربوة : المكان الظاهر المستوي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } يقول : بنشز من الأرض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار والذي فيه الجنان .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { بِرَبْوَةٍ } برابية من الأرض .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } والربوة النشَز من الأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .
وكان آخرون يقولون : هي المستوية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه .
وأما قوله : { أصَابَها وَابِلٌ } فإنه يعني جل ثناؤه أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه . وقوله : { فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ } فإنه يعني الجنة أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر ، والأُكْل : هو الشيء المأكول ، وهو مثل الرّعْب والهُزْء وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على فعل¹ وأما الأَكْل بفتح الألف وتسكين الكاف ، فهو فعل الاَكل ، يقال منه : أكلت أَكْلاً ، وأكلت أكلة واحدة ، كما قال الشاعر :
وما أكْلَةٌ أكَلْتُها بِغَنِيمَةٍ ولا جَوْعَةٌ إنْ جُعْتُها بغَرَامِ
ففتح الألف لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : «ولا جوعة » ، وإن ضمت الألف من «الأكلة » كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة .
وأما قوله : { فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } فإن الطلّ : هو الندى واللين من المطر . كما :
حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : { فَطَلّ } ندى . عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الطل : فالندى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } أي طشّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { فَطَلّ } قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني اللين منه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَطَلّ } أي طش .
وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فالطلّ كذلك يضعف الله صدقة المتصدّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير منّ ولا أذى ، قلّت نفقته أو كثرت لا تخيب ولا تخلف نفقته ، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { فَآتَتْ أُكُلُهَا ضِعْفَيْنِ فَإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } يقول : كما أضعفت ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ } هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أيّ حال ، إما وابل ، وإما طلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالهمْ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله } . . . الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فَإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ } وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟ قيل : يراد فيه : كان ، ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابل أصابها ، أصابها طلّ ، وذلك في الكلام نحو قول القائل : حبست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته ، بمعنى : إلا أكن ، لا بد من إضمار «كان » ، لأنه خبر ومنه قول الشاعر :
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ *** ولَمْ تَجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِها بُدّا
( القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يعني بذلك : والله بما تعملون أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها بصير ، لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء يعلم من المنفق منكم بالمنّ والأذى والمنفق ابتغاء مرضاة الله ، وتثبيتا من نفسه ، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا .
وإنما يعني بهذا القول جلّ ذكره ، التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده ، وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه ، أو يفرّط فيما قد أمر به ، لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع ، يعلمه ويحصيه عليهم ، وهو لخلقه بالمرصاد .
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس ، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص ، وتفنّناً في التمثيل . فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب ، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل ؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه ، وهذا من جملة مقاصد التشبيه .
وانتصب { ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً } على الحال بتأويل المصدر بالوصف ، أي مبتغين مرضاة الله ومثَبِّتين من أنفسهم . ولا يحسن نصبهما على المفعول له ، أما قوله « ابتغاء » فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجله بإضمارها ، لأنّ يؤول إلى معنى لأجل طلبهم مرضاة الله ، وأما قوله « وتثبيتاً » فلأنّ حكمَهُ حكم ما عطف هو عليه .
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه ، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد ، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً .
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس ، وتكون « من » على هذا الوجه للتبعيض ، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال ، أي تثبيتاً لبعض أحوال النفس .
وموقع ( من ) هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل ، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول ، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله ، وظاهر كلام « الكشاف » يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً .
ويجوز أن يكون تثبيتاً تمثيلاً للتصديق أي تصديقاً لوعد الله وإخلاصاً في الدين ليخالف حال المنافقين ؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلاّ عن تصديق للآمر بها ، أي يدُلُّون على تثبيت من أنفسهم .
و ( مِنْ ) على هذا الوجه ابتدائية ، أي تصديقاً صادراً من أنفسهم .
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر ، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس ، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها ، وبلا كلفة ولا ضجر . فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر ، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان ، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق .
ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة ، فالهيأة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديقُ بوعده فضوعفت أضعافاً كثيرة أو دونها في الكثرة ، والهيأة المشبّهة بها هي هيأة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتَان فزكا ثمرُها وتزايد فأكملت الثمرة ، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك .
والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجِنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنَّ إذا ستر ، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختَلف الأصناف ، فأما ما كان مغروساً نخيلاً بحتاً فإنّما يسمى حائطاً . والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر ، فقد كان الغالبَ على بلاد اليمن والطائف . ومن ثمارهم الرمّان ، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضاً كما في الآية التي بعد هذه . ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في [ سورة الأنعام : 141 ] { وهوَ الذي أنشأ جناتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع } فعطف النخل على الجنّات ، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم ، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة .
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف .
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجُبيل . وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء . وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربى تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول { ضعفين } ، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع .
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضاً ، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعُنْق وفُلْك وحُمْق ، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى : { بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ } [ سبإ : 16 ] وقال : { تؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [ إبراهيم : 25 ] ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب « أُكْلها » بسكون الكاف ، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف .
وقوله : « ضِعفين » التثنية فيه لمجرد التكرير مثل لَبَّيْك أي آتت أكلها مضاعفاً على تفاوتها .
وقوله : { فإن لم يُصبها وابل فطل } ، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين . والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم ، وهو مع ذلك متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها .