( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ، أفلا تعقلون ؟ )
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب . حتى قلوب المتجبرين . ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم ؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون ، يخافون ويرجون ، يطمعون ويتطلعون . . ثم إذا هم ساكنون ، لا حس ولا حركة . آثارهم خاوية ، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم ، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر . . إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا . ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين :
( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) . .
لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر . إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة ، لا من أهل البادية ، ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية ، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم . .
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ؟ ) . .
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم ؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم ، وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب :
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار .
فتتدبروا سنن الله في الغابرين ؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَمَا أرْسَلْنا يا محمد مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً لا نساء ولا ملائكة ، نُوحِي إلَيْهِمْ آياتنا بالدعاء إلى طاعتنا وإفراد العبادة لنا مِنْ أهْل القُرَى يعني من أهل الأمصار ، دون أهل البوادي . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهمْ مِنْ أهْل القُرَى لأنهم كانوا أحلم وأحلم من أهل العمود .
وقوله : أفَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ يقول تعالى ذكره : أفل يسر هؤلاء المشركون الذين يكذبونك يا محمد ، ويجحدون نبوّتك ، ويُنكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة والعبادة له في الأرض ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إذ كذّبوا رسلنا ، ألم نُحِلّ بهم عقوبتنا ، فنهلكَهم بها ، وننج منها رسلنا وأتباعنا ، فيتفكروا في ذلك ويعتبروا ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ قال : إنهم قالوا : ما أَنْزَلَ الله على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال : وقوله : وَما أكْثَرُ النّاس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ، وقوله : وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَوَاتِ والأرْض يَمُرّونَ عَلَيْها ، وقوله : «أفأَمِنُوا أنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ ، وقوله : أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا من أهلكنا ؟ قال : فكل ذلك قال لقريش : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا في آثارهم فيعتبروا ويتفكروا .
وقوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ يقول تعالى ذكره : هذا فِعْلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، إن عقوبتنا إذا نزلت بأهل معاصينا والشرك بنا أنجيناهم منها ، وما في الدار الاَخرة لهم خير . وترك ذكر ما ذكرنا اكتفاء بدلالة قوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ للّذِينَ اتّقَوْا عليه ، وأضيفت الدار إلى الاَخرة ، وهي الاَخرة ، لاختلاف لفظهما ، كما قيل : إنّ هذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ وكما قيل : أتيتك عامَ الأوّلِ ، وبارحة الأولى ، وليلةَ الأولى ، ويومَ الخميس ، وكما قال الشاعر :
أتَمْدحُ فَقُعَسا وتَذُمّ عَبَسا *** ألا لِلّهِ أُمّكَ مِنْ هَجِينِ
ولوْ أقْوَتْ عَلَيْكَ دِيارُ عَبْسٍ *** عَرَفتَ الذّلّ عِرْفانَ اليَقِينِ
فتأويل الكلام : وللدار الاَخرة خير للذين اتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .
وقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء المشركون بالله حقيقة ما نقول لهم ونخبرهم به من سوء عاقبة الكفر ، وغبّ ما يصير إليه حال أهله مع ما قد عاينوا ورأوا وسمعوا مما حلّ بمن قبلهم من الأمم الكافرة المكذّبة رسل بها .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 109 ) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 110 )
هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت : أبعث الله بشراً رسولاً{[6858]} ، وكالطائفة التي اقترحت ملكاً وغيرهما .
وقرأ الجمهور : «يوحَى إليهم » بالياء وفتح الحاء ، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر ، وقرأ في رواية حفص : «نوحِي » بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة .
و { القرى } : المدن ، وخصصها دون القوم المنتوين{[6859]} - أهل العمود - فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة ، قال ابن زيد : { أهل القرى } أعلم وأحلم من أهل العمود .
قال القاضي أبو محمد : فإنهم قليل نبلهم ولم ينشىء الله فيهم رسولاً قط . وقال الحسن : لم يبعث الله رسولاً قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن .
قال القاضي أبو محمد : والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين ، كقوله عليه السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً » الحديث{[6860]} . وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع{[6861]} وقد قال صلى الله عليه وسلم : «لا تعرب في الإسلام »{[6862]} وقال : من «بدا جفا »{[6863]} وروى عنه معاذ بن جبل أنه قال : «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة »{[6864]} .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع .
والثاني : أنه إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر .
ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله ، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها ، ثم وقفهم موبخاً بقوله : { أفلا تعقلون } .
وقوله : { ولدار الآخرة } زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين ، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين ، ولدار الآخرة أحسن لهم .
وأما إضافة «الدار » إلى { الآخرة } فقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر : [ الوافر ]
فإنك لو حللت ديار عبس*** عرفت الذل عرفان اليقين{[6865]}
وفي رواية :«فلو أقوت عليك ديار » إلخ .
وكما يقال : مسجد الجامع ، ونحو هذا ، وقال البصريون : هذه على حذف مضاف تقديره : ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك - إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها ، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك : جبل أحد ، وقد تضاف إلى صفة كقولك : مسجد الجامع وحق اليقين ، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه .
وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة «يعقلون » بالياء ، واختلف عن الأعمش . قال أبو حاتم : قراءة العامة : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق{[6866]} .
عطف على جملة { وما أكثر الناس } [ سورة يوسف : 103 ] الخ . هاتان الآيتان متّصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ سورة يوسف : 102 ] إلى قوله : { إن هو إلاّ ذكر للعالمين } [ سورة يوسف : 104 ] وقوله : { قل هذه سبيلي } الآية [ سورة يوسف : 108 ] ، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما جاءهم به ، وتضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عناداً وإعراضاً عن آيات الصدق . فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنّة إلهية قديمة فلماذا يَجعل المشركون نبوءتك أمراً مستحيلاً فلا يصدّقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون : { أبعث الله بشراً رسولاً } . وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالاً من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك ، فسلم المشركون ببعثتهم وتحدّثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك .
وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين .
و { من قبلك } يتعلق ب { أرسلنا } ف { من } لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة ، أي من أول أزمنة الإرسال . ولولا وجود { من } لكان { قبلك } في معنى الصفة للمرسَلين المدلول عليهم بفعل الإرسال .
والرجال : اسم جنس جامد لا مفهوم له . وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله صلى الله عليه وسلم « ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه » أي إنسان أو شخص ، فليس المراد الاحتراز عن المرأة . واختير هنا دون غيره لِمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلاً من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس ؛ ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سَجَاحِ :
أضحت نبيئتُنا أنثى نُطِيف بها *** وأصبحت أنبياءُ الناس ذكرانا
وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين مَن سلّموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] و { قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى } [ القصص : 48 ] ، أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بِدعاً من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتُعرضوا عن النظر في آياته .
فالقصر إضافي ، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكةً أو ملوكاً من ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي ، ويعقوب عليه السلام حين كان ساكناً في البَدْو كما تقدم .
وقرأ الجمهور ، { يُوحَى } بتحتية وبفتح الحاء مبنياً للنائب ، وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة .
وتفريع قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } على ما دلت عليه جملة { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً } من الأسوة ، أي فكذّبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذّبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الأقوام السابقين ، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذّبوا الرسل قبلهم ، فضمير { يسيروا } عائد على معلوم من المقام الدال عليه { وما أنا من المشركين } [ سورة يوسف : 108 ] .
والاستفهام إنكاري . فإن مجموع المتحدّث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود .
وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد .
و{ كيف } استفهام معلّق لفعل النظر عن مفعوله .
وجملة { ولدار الآخرة } خبر . معطوفة على الاعتراض فلها حكمه ، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا . وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا . وتعريض أيضاً بأن دار الآخرة أشد أيضاً على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين .
وإضافة { دار } إلى { آخرة } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل « يا نساء المسلمات » في الحديث .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { أفلا تعقلون } بتاء الخطاب على الالتفات ، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب . وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله .