في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (63)

56

ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية ؛ وتلتجى ء إلى إلهها الحق في ساعة الشدة ؛ ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب ؛ وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء . . في مشهد قصير سريع ، ولكنه واضح حاسم ، وموح مؤثر .

إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائض ليس مؤجلا دائما إلى يوم الحشر والحساب . فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر . فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله ؛ ولا ينجيهم من الكرب إلا الله . . ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء :

( قل : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ، تدعونه تضرعا وخفية : لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين . قل : الله ينجيكم منها ومن كل كرب ، ثم أنتم تشركون ) . .

إن تصور الخطر ، وتذكر الهول ، قد يردان النفوس الجامحة ، ويرققان القلوب الغليظة ، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة ؛ كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة :

( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية : لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) . .

إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة ، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق . . وظلمات البر والبحر كثيرة . وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات . فالمتاهة ظلام ، والخطر ظلام ، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب . . وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين . . إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام ؛ فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها . . حقيقة الألوهية الواحدة . . وتتجه إلى الله الحق بلا شريك ؛ لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك ، وتدرك انعدام الشريك ! ويبذل المكروبون الوعود .

( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (63)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الداعين لك إلى عبادة أوثانهم : من الذين ينجيكم من ظلمات البرّ إذا ضللتم فيه فتحريتم فأظلم عليكم الهدى والمحجة ؟ ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأخطأتم فيه المحجة فأظلم عليكم فيه السبيل فلا تهتدون له ، غير الله الذي مفزعكم حينئذ بالدعاء تضرّعا منكم إليه واستكانة جهرا وخفية ؟ يقول : وإخفاء للدعاء أحيانا ، وإعلانا وإظهارا ، تقولون : لَئِن أنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ يا ربّ : أي من هذه الظلمات التي نحن فيها ، لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرينَ يقول : لنكوننّ ممن يوحدك بالشكر ويخلص لك العبادة دون من كنا نُشركه معك في عبادتك . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ مَنْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً يقوله : إذا أضلّ الرجل الطريق دعا الله لئن أنجينا من هذه لنكوننّ من الشاكرين .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ مَنْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ البَرّ والبَحْرِ يقول : من كرب البرّ والبحر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (63)

هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان ، وتوقيفهم على سوء الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ إليه في الشدائد ، و { من } استفهام رفع بالابتداء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «من ينَجّيكم قل الله يَنجّيكم » بتشديد الجيم وفتح النون ، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر عنه وحميد بن قيس ويعقوب «ينْجِيكم » فيها بتخفيف الجيم وسكون النون ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد في الأولى والتخفيف في الثانية فجمعوا بين التعدية بالألف والتعدية بالتضعيف كما جاء ذلك في قوله تعالى : { فمهِّل الكافرين أمْهِلهم رويداً }{[4949]} و { ظلمات البر والبحر } يراد به شدائدهما ، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة ، والعرب تقول عام أسود ويوم مظلوم ويوم ذو كواكب{[4950]} ونحو هذا يريدون به الشدة ، قال قتادة : المعنى من كرب البر والبحر ، وقاله الزجّاج و { تدعونه } في موضع الحال و { تضرعاً } نصب على المصدر والعامل فيه { تدعونه } ، والتضرع صفة بادية على الإنسان ، { وخفية } معناه الاختفاء والسر ، فكأن نسق القول : تدعونه جهراً وسراً هذه العبارة بمعان زائدة ، وقرأ الجميع غير عاصم : «وخُفية » بضم الخاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «وخِفية » بكسر الخاء ، وقرأ الأعمش : «وخيفة » من الخوف وقرأ الحجازيون وأهل الشام : «أنجيتنا » ، وقرأ الكوفيون «أنجانا » على ذكر الغائب ، وأمال حمزة والكسائي الجيم ، و { من الشاكرين } أي على الحقيقة ، والشكر على الحقيقة يتضمن الإيمان ، وحكى الطبري في قوله { ظلمات } أنه ضلال الطريق في الظلمات ونحوه المهدوي{[4951]} أنه ظلام الليل والغيم والبحر .

قال القاضي أبومحمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو لفظ عام لأنواع الشدائد في المعنى ، وخص لفظ «الظلمات » بالذكر لما تقرر في النفوس من هول الظلمة .


[4949]:- الآية (17) من سورة (الطارق).
[4950]:- انشد سيبويه: بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا كأنه لغيبة شمسه وشدة ظلامه بدت فيه الكواكب، ويعنون بذلك أنه شديد عليهم.
[4951]:- في بعض النسخ: وحكى المهدوي.