ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .
( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة [ الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ] . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير !
أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس ؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها . . وحول مقدار ما تدفع به الضرورة ؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري .
ومعنى قوله : إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ : ما حرم عليكم إلا الميتة : «وإنما » : حرف واحد ، ولذلك نصبت الميتة والدم ، وغير جائز في الميتة إذا جعلت «إنما » حرفا واحدا إلا النصب ، ولو كانت «إنما » حرفين وكانت منفصلة من «إنّ » لكانت الميتة مرفوعة وما بعدها ، وكان تأويل الكلام حينئذٍ : إن الذي حرّم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدم ولحم الخنزير لا غير ذلك .
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل . ولست للقراءة به مستجيزا ، وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم ، لاتفاق الحجة من القراء على خلافه ، فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه ، ولو قرىء في «حرّم » بضم الحاء من «حرم » لكان في الميتة وجهان من الرفع : أحدهما من أن الفاعل غير مسمى ، و«إنما » حرف واحد . والاَخر «إن » و«ما » في معنى حرفين ، و«حرم » من صلة «ما » ، والميتة خبر «الذي » مرفوع على الخبر ، ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستجيزا للقراءة به لما ذكرت .
وأما الميتة فإن القراء مختلفة في قراءتها ، فقرأها بعضهم بالتخفيف ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون : هو هيْن لّين الهيْن الليْن ، كما قال الشاعر :
ليسَ مَنْ ماتَ فاسْترَاحَ بمَيْتٍ إنّمَا المَيْتُ مَيّتُ الأحْياء
فجمع بين اللغتين في بيت واحد في معنى واحد . وقرأها بعضهم بالتشديد وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو «مَيْوت » ، فيعل من الموت ، ولكن الياء الساكنة والواو المتحركة لما اجتمعتا والياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة ، كما فعلوا ذلك في سيد وجيد . قالوا : ومن خففها فإنما طلب الخفة . والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى .
والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في ياء الميتة لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف في معنييهما .
وأما قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فإنه يعني به : وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام . وإنما قيل : وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر : «مهلٌ » ، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ ، لرفعه صوته بالتلبية ومنه استهلال الصبيّ : إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه ، واستهلال المطر : وهو صوت وقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :
ظَلَم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ
واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله مما لم يسمّ عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يعني ما أهلّ للطواغيت كلها ، يعني ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : هو ما ذبح لغير الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التي يعبدونها ، أو يسمون أسماءها عليها . قال : يقولون باسم فلان ، كما تقول أنت باسم الله . قال : فذلك قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التجيبي ، وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب . قال حيوة : قلت : أرأيت قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّهِ ؟ قال : إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ .
يعني تعالى ذكره : فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وهو بالصفة التي وصفنا ، فلا إثم عليه في أكله إن أكله . وقوله : فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة ، «وغير باغ » نصب على الحال من «مَن » ، فكأنه قيل : فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله ، فهو له حلال .
وقد قيل : إن معنى قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : الرجل يأخذه العدوّ فيدعونه إلى معصية الله .
وأما قوله : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون ، فقال بعضهم : يعني بقوله : غَيْرَ باغٍ غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور ، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عاد يقول : لا قاطعا للسبيل ، ولا مفارقا للأئمة ، ولا خارجا في معصية الله ، فله الرخصة . ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة وإذا عطش أن يشرب الخمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم : يعني الأفطس ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال الباغي العادي : الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : إذا خرج في سبيل من سبل الله فاضطرّ إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطرّ إلى الميتة أكل ، وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، قال : غَيْرَ باغٍ على الأئمة وَلا عادٍ قال : قاطع السبيل .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل .
وقال آخرون في تأويل قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عاد : غير باغ الحرام في أكله ، ولا معتد الذي أبيح له منه . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ في أكله ، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادً قال : غير باغ فيها ولا معتد فيها بأكلها وهو غنيّ عنها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ غير باغ يبتغيه ، ولا عاد يتعدى على ما يمسك نفسه .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يقول : من غير أن يبتغي حراما ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام هذا التعدي ، ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول هذا وهذا واحد .
وقال آخرون : تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أما باغ فيبتغي فيه شهوته ، وأما العادي : فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال ، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما ، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما ، فإن كان ذلك كذلك ، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثما ، وإلى خلافهما أمر الله خلافا .
وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه ، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفا .
فأما توجيه تأويل قوله : وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله ، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه . فإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة .
وأما تأويل قوله : فَلا إثْمَ عَلَيْهِ يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يعني بقوله تعالى ذكره : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم ، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته ، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافح عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، رحيم بكم إن أطعتموه .
{ إنما حرم عليكم الميتة } أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . { وما أهل به لغير الله } أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون . { ولا عاد } سد الرمق ، أو الجوعة . وقيل ؛ غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . { فلا إثم عليه } في تناوله . { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .
استئناف بياني ، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّناً المحرماتِ وهي أضداد الطيبات ، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر ، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار ؛ فإن المحرمات قليلة ، ولأن في هذا الحصر تعريضاً بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات وأحلوا الميتة والدم ، ولما كان القصر هنا حقيقياً لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم ، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض .
و { إنما } بمعنى مَا وإلاّ أي ما حَرَّم عليكم إلاّ الميتة وما عطف عليها ، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حَرَّم من المأكولات .
والحرام : الممنوع منعاً شديداً .
والمَيْتَة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذَّات التي أصابها الموت فمخففها ومشدَّدها سواء كالميْتِ والميِّت ، ثم خُص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة ، فقيل : إن هذا من نقل الشرع وقيل : هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى .
وقرأ الجمهور ( الميتة ) بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء .
وإضافةُ التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأَعيان ، ومحمله على تحريم ما يُقصد من تلك العَين باعتبار نوعها نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أو باعتبار المقام نحو { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق ، أو يقال : أقيم اسم الذات مُقام الفعل المقصود منها للمبالغة ، فإذا تعين ما تقصد له قُصر التحريم والتحليل على ذلك ، وإلاَّ عُمِّم احتياطاً ، فنحو { حُرمت عليكم أمهاتكم } متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق ، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن ، ونحو : { فاجتنِبُوه } [ المائدة : 90 ] بالنسبة إلى الميسِر والأزلام متعينٌ لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها .
والميتة هنا عام ؛ لأنه معرَّف بلام الجنس ، فتحريم أكل الميتة هو نصُّ الآية وصريحُها لوقوع فعل { حَرَّم } بعد قوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 172 ] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام ، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصُوفها وما لا يتصل بلحمها مما كان يُنتزع منها في وقت حياتها فقال مالك : يجوزُ الانتفاع بذلك ، ولا ينتفع بقرنها وأَظلافها وريشها وأنيابها لأن فيها حياة إلاَّ نابَ الفيل المسمى العَاج ، وليس دليله على هذا التحريم منتزعاً من هذه الآية ولكنه أخذَ بدلالة الإشارة ؛ لأن تحريم أكل الميتة أَشارَ إلى خباثة لحمها وما في معناها ، وقال الشافعي : يحرم الانتفاع بكل أجزاء الميتة ، ولا دليل له من فعل { حَرَّم } ؛ لأن الفعل في حيز الإثبات لا عموم له ، ولأن لفظ { الميتة } كُلٌّ وليس كليّاً فليس من صيغ العموم ، فيرجع الاستدلال به إلى مسألة الخلاف في الأَخذ بأوائل الأسماء أو أواخرها وهي مسألة ترجع إلى إعمال دليل الاحتياط وفيه مراتب وعليه قرائن ولا أحسبها متوافرة هنا ، وقال أبو حنيفة لا يجوز الانتفاع بالميتة بوجهٍ ولا يُطَعمُها الكلابُ ولا الجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرمها الله تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها مؤكداً به حكم الحظر ، فقوله موافق لقول مالك فيما عدا استدلاله .
وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف ، ومن جهة باطنه كشبه اللحم ، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة إذا دُبغ فقال أحمد ابن حنبل : لا يطهر جلد الميتة بالدبغ ، وقال أبو حنيفة والشافعي : يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير لأنه محرم العين ، ونسب هذا إلى الزهري ، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير ، وقال مالك يطهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلباً لا يداخله ما يجاوره ، وأما باطنه فلا يطهر بالدبغ ولذلك قال : يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه ، ومنع أن يصلي به أو عليه ، وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال « هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به » ولما جاء في الحديث الآخر من قوله : « أيُّما إهَابٍ دُبغَ فقد طَهُر »{[173]} ، ويظهر أن هذين الخبرين لم يبلغا مبلغ الصحة عند مالك ولكن صحتهما ثبتت عند غيره ، والقياس يقتضي طهارة الجلد المدبوغ لأن الدبغ يزيل ما في الجلد من توقع العُفونة العارضة للحيوان غير المذكى فهو مزيل لمعنى القذارة والخباثة العارضتين للميتة .
ويستثنى من عموم الميتة ميتة الحوت ونحوه من دواب البحر التي لا تعيش في البر وسيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } [ المائدة : 96 ] في سورة العقود .
واعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالباً إلاّ وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءاً من دمه جراثيم الأمراض ، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة ، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكى مات من غير علة غالباً ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقياً مما يخشى منه أضرار .
ومن أجل هذا قال مالك في الجنين : إن ذكاته ذكاة أمه ؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغاً لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول الحديث الصحيح : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه أخذ الشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتاً فاعتبر أنه ميتة لم يذكَّ ، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول ، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلاً .
وقد ألحق بعض الفقهاء بالحوت الجراد تؤكل ميتته لأنه تتعذر ذكاته وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية تمسكاً بما في « صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه " اهـ .
وسواء كان معه ظرفاً لغواً متعلقاً بنأكل أم كان ظرفاً مستقراً حالاً من ضمير « كنا » فهو يقتضي الإباحة إما بأكله صلى الله عليه وسلم إياه وإما بتقريره ذلك فتخص به الآية لأنه حديث صحيح ، وأما حديث " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " فلا يصلح للتخصيص لأنه ضعيف كما قال ابن العربي في « الأحكام » ، ومنعه مالك وجمهور أصحابه إلاّ أن يذكى ذكاة أمثاله كالطرح في الماء السخن أو قطع ما لا يعيش بقطعه .
ولعل مالك رحمه الله استضعف الحديث الذي في مسلم أو حمله على الاضطرار في السفر أو حمله على أنهم كانوا يصنعون به ما يقوم مقام الذكاة قال ابن وهب : إن ضم الجراد في غرائر فضمه ذلك ذكاة له ، وقد ذكر في « الموطأ » حديث عمر وقول كعب الأحبار في الجراد إنه من الحوت وبينت توهم كعب الأحبار في كتابي المسمى « كشف المغطى على الموطأ » .
وأما الدَّم فإنما نص الله على تحريمه لأن العرب كانت تأكل الدم ، كانوا يأخذون المباعر فيملأونها دماً ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة ، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية ، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المُهراق ، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده ولو اعتاده أورثه ضراوة ، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر ، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك ، ومداركهم في ذلك ضعيفة ، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة .
والدم معروف مدلولهُ في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آتٍ من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة ، وتجددُه في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقُوَّةِ حركة القلب بالفَتْح والإغلاق حركةً ماكينية هوائية ، ثم يدور الدم في العروق منتقلاً من بعضها إلى بعض بواسطة حركات القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان .
ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم . وقد قال بعض المفسرين : إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي ، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم وارداً على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أوْلى بالتحريم أو مساوٍ للوحشي .
وذِكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه ولا على عدمها ، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء { رب إني وهن العظْم مني } [ مريم : 4 ] ، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية .
وقد قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله : { إنما حرم عليكم الميتة } وجوه قال ابن عطية : إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذُكِّيَ أم لم يُذَكَّ اهـ . ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد ، وقال الألوسي خصه لإظهار حرمته ، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اهـ . يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة ، ولا أحسب ذلك ، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب ، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان ، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه ، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي ، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد .
وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته .
ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر ، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي « المدونة » توقَّف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزير . قال ابن شَأْس : رأى غير واحد أن توقُّف مالك حقيقة لعموم { أحل لكم صيد البحر } [ المائدة : 96 ] وعموم قوله تعالى : { ولحم الخنزير } ورأى بعضهم أنه غير متوقِّف فيه حقيقة ، وإنما امتنع من الجواب إنكاراً عليهم تسميتهم إياه خنزيراً ولذلك قال أنتم تسمونه خنزيراً يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيراً وأنه لا ينبغي تسميته خنزيراً ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير ، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يُتَلاعَب بها ، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر غير متردد أخذاً بأنه سمي خنزيراً ، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي ، ومن أين لنا ألا يكون لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرماً على فريق ومباحاً لفريق .
وقوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى ، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون : استهل الصبي صارخاً إذا رفع صوته بالبكاء ، وأهلَّ بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما ، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل : هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضاً اسم صوت لزجر الخيل ، وقيل مشتق من الهلال ، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضاً وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق ، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقاً وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هلَّ وأهلَّ بمعنى رفع صوته ، لأن تصاريف أهلَّ أكثر ، ولأنهم سموا الهلال شهراً من الشهرة كما سيأتي .
وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزَّى أو نحوهما ، وكذلك كان عند الأمم التي تعبد آلهة إذا قربت لها القرابين ، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عادة عند اليونان كما جاء في « الإلياذة » لهوميروس .
فأُهِلَّ في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله ، وضمن ( أهل ) معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب ، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى { ما أهل } ، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا ، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها .
وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعماً بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام . وقال ابن عرفة في « تفسيره » : الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله .
وقوله : « فمن اضطر » الخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى ، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم ، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فلا إثم عليه ، وقوله : { غير باغ ولا عاد } حال ، والبغي الظلم ، والعدوان المحاربة والقتال ، ومجيء هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه بأكلها يكون غير باغ ولا عاد ، لأن الضرورة تلجىء إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي والعدوان بين الأمة ، وهي أيضاً إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط ، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته ، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلاّ فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل ، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار ، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان ، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلاً يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها ، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى .
ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافاً لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول : { إن الله غفور رحيم } في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود ، وقد فسر قوله { غير باغ ولا عاد } بتفاسير أخرى فعن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية : بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين .
ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي ، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور ، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة ، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلاّ ما جرب منها ، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء ، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية ، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياساً على أكل المضطر وإلاّ فلا .
وقرأ بو جعفر : { فمن اضطر } بكسر الطاء ، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء .
وقوله : { إن الله غفور رحيم } تذييل قصد به الامتنان ، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس ، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب « وفي نزعه ضعف والله يغفر له » . ومعنى الآية : أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة .