سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة
هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص " المنافقون " الدال على موضوعها . . ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين ، ووصف أحوالهم ومكائدهم . فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا . ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين ، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم .
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين ، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب .
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين ، ولو من بعيد . وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله ، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد ، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات .
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة ، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريبا ، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين . . هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها ؛ وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا ؛ وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة ، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين .
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب : " سيرة الرسول : صور مقتبسة من القرآن الكريم " لمؤلفه الأستاذ " محمد عزة دروزة " نقتطف منه فقرات كاشفة :
" وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة ، فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم ، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر ، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء ، كما كان شأن المنافقين بوجه عام . ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا ، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد ، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ ؛ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا ، ثم إلى يثرب ؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه ، أو بالإغراء والتهويش ؛ وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين ، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب . . .
" أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا . فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج ؛ ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه ، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام . ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء ، وإما عن غيظ وحقد وعناد ، لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار ؛ وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف ، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي ، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر ، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم ، وغدوا يرون في النبي رسول الله ، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة ، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع ، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك ، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد ، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم ، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام ، والقيام بأركانه ، والتضامن مع قبائلهم . وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه ، وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس ، وعليها طابع من النفاق بارز ، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين ، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط ؛ ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق ، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا . وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة ، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون ، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم ، وتحذر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة .
" ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية ، حتى لكأنه نضال قوي ، يذكر بما كان من نضال بين النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وزعماء مكة ، وإن اختلفت الأدوار والنتائج ؛ إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ، ودائرة الإسلام تتسع ، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز ؛ وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة ، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واتساع دائرة الإسلام ، وتوطد عزته وسلطانه " .
[ ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون ، وخاصة في أوائل العهد ، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم ، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة ، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا ؛ وأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب ، وأهل مكة خصومه الألداء ، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر ، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه ؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به ، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر ؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى ، والتضامن في موقف المعارضة والكيد ، حتى ليمكن القول : إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد ، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق ، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم ، وكفاه شرهم ] .
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر ، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هو رسول الله . وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون ، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم ، ويخدعون المسلمين فيهم :
( إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله - والله يعلم إنك لرسوله - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ) . .
فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان ، لا يقصدون بها وجه الحق ، إنما يقولونها للتقية ، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين . فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة ، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها ، ويداروا أنفسهم بقولها . ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة : ( والله يعلم إنك لرسوله ) . . ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه . فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين . ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ يا محمد قالُوا بألسنتهم نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ قال المنافقون ذلك أو لم يقولوا وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافقينَ لَكَاذِبُونَ يقول : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في إخبارهم عن أنفسهم أنها تشهد إنك لرسول الله ، وذلك أنها لا تعتقد ذلك ولا تؤمن به ، فهم كاذبون في خبرهم عنها بذلك .
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله : وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافقينَ لَكَاذِبُونَ إنما كذب ضميرهم لأنهم أضمروا النفاق ، فكما لم يقبل إيمانهم ، وقد أظهروه ، فكذلك جعلهم كاذبين ، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا .
سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير { سورة المنافقين } اعتبارا بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها .
ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله { فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين } . وسيأتي قريبا ، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين ، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين .
ووقع في صحيح البخاري وبعض كتب التفسير تسميتها { سورة المنافقون } على حكاية اللفظ الواقع في أولها وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية والمشرقية .
واتفق العادون على عد آيها إحدى عشرة آية .
وقد عدت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد . نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة .
والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في جامع الترمذي عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في غزوة تبوك . ووقع فيه أيضا عن سفيان : أن ذلك في غزوة بني المصطلق وغزوة بني المصطلق سنة خمس ، وغزوة تبوك سنة تسع .
ورجح أهل المغازي وابن العربي في العارضة وابن كثير : أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر . لأن قول عبد الله بن أبي بن سلول : ليخرجن الأعز منها الأذل ، يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوة وقد ضعف أمر المنافقين .
وسبب نزولها ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال : كنا في غزاة فكسع{[1]}
رجل من المهاجرين رجلا جهنيا حليفا للأنصار فقال الجهني : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين : فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، قالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال دعوها فإنها منتنة أي اتركوا دعوة الجاهلية : يآل كذا فسمع هذا الخبر عبد الله بن أبي فقال : أقد فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، قال ريد بن أرقم : فسمعت ذلك فأخبرت به عمي فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فكذبت رسول الله وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله فقال عمي ما أردت إلا أن كذبك رسول الله ، وفي رواية : إلى أن كذبك ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي : إن الله قد صدقك .
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث : أن المهاجري أعرابي وأن الأنصاري من أصحاب عبد الله بن أبي ، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجه ، وأن عبد الله بن أبي قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب ، وذكر أهل السير أن المهاجري من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب . وأن الأنصاري جهني اسمه سنان حليف لبن أبي ، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة . واضطرب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها ؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة .
وذكر الواحدي في أسباب النزول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عبد الله بن أبي وقال له : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ، فقال عبد الله بن أبي : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكاذب .
والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبي في سورة غضب تهييجا لقومه ثم خشي انكشاف نفاقه فأنكرها .
وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه وإنما قالها ابن أبي في سورة الناصح كما سيأتي في تفسير حكايتها .
وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب ، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة أو قبلها بقليل وهو بعيد .
فضح أحوال المنافقين بعد كثير من دخائلهم وتولد بعضها عن بعض من كذب ، وخيس بعهد الله ، واضطراب في العقيدة ، ومن سفالة نفوس في أجسام تغر وتعجب ، ومن تصميم على الإعراض عن طلب الحق والهدى ، وعلى صد الناس عنه ، وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح ب إذا خص بغرض من هذه الأغراض . وقد علمت أن ذلك جرت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أبي بن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله .
وختمت بموعظة المؤمنين وحثهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل .
لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجري والأنصاري ومقالة عبد الله بن أُبيّ في شأن المهاجرين . تعيّن أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبيّ وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعمّ المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى الله عليه وسلم « مَا بال أقوام يشترطون شُروطاً ليست في كتاب الله » ومراده مولى بَريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أمّ المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له ، وابتدىء بتكذيب مَنْ أُريد تكذيبه في ادعائه الإِيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعاراً بأن الله أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخَائِلهم ، وهو تمهيد لما بعده من قوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلم أن المنافقين قَالوا : نشهد إنك لرسول الله .
فيجوز أن يكون قولهم : { نشهد إنك لرسول الله } محكياً بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة .
ويجوز أن يكونوا تواطؤوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإِسلام . وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة { قالوا } دون نحو : زعموا .
و { إذا } ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماضيتين ، والظرف متعلق بفعل { قالوا } وهو جواب { إذا } .
فالمعنى : إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله .
و { نشهد } خبر مؤكّد لأن الشهادة الإِخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة ، والمعاينة أقوى طرق العلم ، ولذلك كثر استعمال : أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم . وكثر أن يُجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله ابن عطية . ومعنى ذلك : أن قوله : { نشهد } ليس إنشاء . وبعض المفسرين جعله صيغة يمين . وروي عن أبي حنيفة .
والمقصود من قوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحْي تعيينهم أو تعيين بعضهم .
و { المنافقون } جمع منافق وهو الذي يظهر الإِيمان ويُسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلاً في سورة آل عمران .
وجملة { إنك لرسول الله } بيان لجملة { نشهد } .
وجملة { والله يعلم إنك لرسوله } معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أنه تكذيب لجملة { إنك لرسول الله } فإن المسلمين كانوا يومئذٍ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجّيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضياً دفع الإِيهام وهذا من الاحتراس .
وعُلق فعل { يعلم } عن العمل لوجود ( إنّ ) في أول الجملة وقد عدوا ( إنَّ ) التي في خبرها لاَم ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العَمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل ( إنَّ ) ولكنها زُحْلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكَّدين متصلين ، وأُخذ ذلك من كلام سيبويه .
وجملة { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } عطف على جملة { قالوا نشهد } .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم .
وجيء بفعل { يشهد } في الإِخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساوياً لإِخبارهم .
والكذب : مُخالفة ما يفيدهُ الخبرُ للواقع في الخارج ، أي الوُجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا أنهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولُهم ما في نفوسهم . وبهذا بطل احتجاج النَظَّام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى : { قالوا نشهد } . وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في « تلخيص المفتاح » وفي « الإِيضاح » .
وجملة { إن المنافقين لكاذبون } مبنية لجملة { يشهد } مثل سَابقتاها .