ومن أين يكون ريب أو شك ؛ ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع ، ظاهرة في عجزهم عن صياغة مثله ، من مثل هذه الأحرف المتداولة بينهم ، المعروفة لهم من لغتهم ؟
( ذلك الكتاب لا ريب فيه . . هدى للمتقين ) . .
الهدى حقيقته ، والهدى طبيعته ، والهدى كيانه ، والهدى ماهيته . . ولكن لمن ؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا ؟ . . للمتقين . . فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا ، خائفا ، حساسا ، مهيأ للتلقي . . ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال بلى ! قال : فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى . .
فذلك التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات غيرها من الأشواك !
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ }
قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى : ذَلِكَ الكِتَابُ : هذا الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ذلك الكتاب ) ، قال : هو هذا الكتاب .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم ابن ظهير ، عن السدّي في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) قال : هذا الكتاب .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : ( ذِلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون «ذلك » بمعنى «هذا » ؟ و«هذا » لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و«ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ قيل : جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر ، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث ، فيقول السامع : إن ذلك والله لكما قلت ، وهذا والله كما قلت ، وهو والله كما ذكرت . فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ ، فكذلك ذلك في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل ( ذلك الكتاب ) ( الم ) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ . ولذلك حسن وضع «ذلك » في مكان «هذا » ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله : ( الم ) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه ، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب . وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا » لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذْكُرْ إسمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخْيار هَذَا ذِكْرٌ ) فهذا ما في «ذلك » إذا عنى بها «هذا » . وقد يحتمل قوله جل ذكره : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك » : «هذا الكتاب » ، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك . وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السلمي :
فإنْ تَكُ خَيْلي قَدْ أصِيبَ صَميمُها *** فَعَمْدا على عَيْنٍ تَيَمّمْتُ مالكا
أقُولُ لَهُ والرّمْحُ يَأطِرُ مَتْنَهُ *** تَأمّلْ خُفافا إنّني أنا ذَلكا
كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فرأى أن «ذلك الكتاب » بمعنى «هذا » نظير ما أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه ، فكذلك أظهر «ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد . والقول الأول أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل .
وقد قال بعضهم : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوله كذلك لأن «ذلك » يكون حينئذٍ إخبارا عن غائب على صحة .
القول في تأويل قوله تعالى : لا رَيْبَ فِيهَ .
وتأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ : «لا شك فيه » ، كما :
حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد لا رَيْبَ فِيهِ ، قال : لا شك فيه .
حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد عن عطاء : لا رَيْبَ فِيهِ قال : لا شك فيه .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدّي ، قال : لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك فيه .
حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) : لا شك فيه .
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) قال : لا شك فيه .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول لا شك فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس قوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .
وهو مصدر من قولك : رابني الشيء يريبني ريبا . ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤذيّة الهذلي :
فَقَالُوا تَرَكْنا الحَيّ قَدْ حَصِرُوا بهِ *** فَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمّ لَحِيمُ
ويروى : «حصروا » ، و«حَصِروا » ، والفتح أكثر ، والكسر جائز . يعني بقوله : «حصروا به » : أطافوا به ، ويعني بقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه ، وبقوله : «إن قد كان ثم لحيم » ، يعني قتيلاً ، يقال : قد لُحم إذا قتل . والهاء التي في «فيه » عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين .
حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : هُدًى قال : هدى من الضلالة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدًى للمتّقِينَ ) يقول : نور للمتقين .
والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له أهديه هُدًى وهداية .
فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل ، ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .
وقوله : هُدًى يحتمل أوجها من المعاني ؛ أحدها : أن يكون نصبا لمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة ، فيكون التأويل حينئذٍ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و«ذلك » مرفوع ب«الم » ، و«الم » به ، و«الكتاب » نعت ل«ذلك » . وقد يحتمل أن يكون نصبا على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في «فيه » ، فيكون معنى ذلك حينئذٍ : الم الذي لا ريب فيه هاديا . وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في «فيه » ، ومن الكتاب على أن «الم » كلام تام ، كما قال ابن عباس . إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون «ذلك الكتاب » خبرا مستأنفا ، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب«ذلك » و«ذلك » بالكتاب ، ويكون «هدى » قطعا من الكتاب ، وعلى أن يرفع «ذلك » بالهاء العائدة عليه التي في «فيه » ، والكتاب نعت له ، والهدى قطع من الهاء التي في «فيه » . وإن جعل الهدى في موضع رفع لم يجز أن يكون «ذلك الكتاب » إلا خبرا مستأنفا و«الم » كلاما تاما مكتفيا بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ «هدى » بمعنى المدح كما قال الله جل وعز : { الم تِلْكَ آيَاتُ الكِتابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ } في قراءة من قرأ «رحمة » بالرفع على المدح للاَيات .
والرفع في «هدى » حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والاَخر : على أن يجعل الرافع «ذلك » ، والكتاب نعت ل«ذلك » . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع «لا ريب فيه » ، ويكون «ذلك الكتاب » مرفوعا بالعائد في «فيه » ، فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وَهَذَا كتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ ) .
وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين أن «الم » رافع «ذلك الكتاب » بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه ، فزعم أن الرفع في «هدى » من وجهين والنصب من وجهين ، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون «الكتاب » نعتا ل«ذلك » ، و«الهدى » في موضع رفع خبر ل«ذلك » كأنك قلت : ذلك لا شك فيه . قال : وإن جعلت «لا ريب فيه » خبره رفعت أيضا «هدى » بجعله تابعا لموضع «لا ريب فيه » كما قال الله جل ثناؤه : { وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ } كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب ، فأن تجعل «الكتاب » خبرا ل«ذلك » وتنصب «هدى » على القطع لأن «هدى » نكرة اتصلت بمعرفة وقد تمّ خبرها فتنصبها ، لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة ، وإن شئت نصبت «هدى » على القطع من الهاء التي في «فيه » كأنك قلت : لا شكّ فيه هاديا .
قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصّله في «الم » وأنها مرفوعة ب«ذلك الكتاب » ونبذه وراء ظهره . واللازم له على الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع في «هدى » بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر لذلك ، أو على وجه الإتباع لموضع «لا ريب فيه » ، فكان اللازم له على قوله إن يكون خطأ ، وذلك أن «الم » إذا رفعت «ذلك الكتاب » فلا شك أن «هدى » غير جائز حينئذٍ أن يكون خبرا ل«ذلك » بمعنى الرافع له ، أو تابعا لموضع لا ريب فيه ، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إياه عنه .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قوله : ( للْمُتّقِينَ ) قال : اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم .
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِينَ ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به .
حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدى للْمُتّقِينَ ) قال : هم المؤمنون .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سألني الأعمش عن المتقين ، قال : فأجبته ، فقال لي : سل عنها الكلبي فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك ولم ينكره .
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : ( هُدًى للْمُتّقِينَ ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِين ) قال : المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه : ( هُدًى للْمُتّقينَ ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها . وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده ، إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى . فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين . إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه ، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا ، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين .
{ ذلك الكتاب } ذلك إشارة إلى { الم } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره ، متى أريد ب{ الم } السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أو في الكتب المتقدمة . وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة .
وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب . وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة .
{ لا ريب فيه } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة .
وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين . وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي . والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه .
{ هدى للمتقين } يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة .
وقيل الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب . واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : { هدى للناس } . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه .
والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب :
الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } .
الثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } .
الثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وقد فسر قوله : { هدى للمتقين } ههنا على الأوجه الثلاثة .
واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون { الم } مبتدأ على أنه اسم للقرآن . أو السورة . أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك .
وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وذلك خبرا ثانيا . أو بدلا والكتاب صفته ، و{ لا ريب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها . وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى : { لا فيها غول } لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره . وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في { لا } ، ضمير . فلذلك وقف على { لا ريب } ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و{ الكتاب } خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الم } .
والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما . ف{ الم } ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي ، و{ لا ريب فيه } ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كماله أعلى مما للحق واليقين . و{ هدى للمتقين } ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه { هدى للمتقين } ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة { هدى للمتقين } ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريف ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه .
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )
الاسم من { ذلك } الذال والألف ، وقيل الذال وحدها ، والألف تقوية ، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد ، والكاف للخطاب ، وموضع { ذلك } رفع كأنه ابتداء( {[160]} ) ، أو ابتداء وخبره بعده ، واختلف في { ذلك } هنا فقيل : هو بمعنى «هذا » ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه قد يشار ب «ذلك » إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا » إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقُرْب( {[161]} ) . وقيل : هو على بابه إِشارة إلى غائب( {[162]} ) ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : ما قد كان نزل من القرآن ، وقيل : التوراة والإنجيل ، وقيل : اللوح المحفوظ ؛ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل : إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، فأشار إلى ذلك الوعد( {[163]} ) .
وقال الكسائي : «{ ذلك } إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد » . وقيل : إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتاباً ، فالإشارة إلى ذلك الوعد ، وقيل : إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال { الم } حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها( {[164]} ) .
ولفظ { الكتاب } مأخوذ من «كتبتُ الشيء » إذا جمعتَه وضممتَ بعضه إلى بعض ككتبَ( {[165]} ) الخَرَز بضم الكاف وفتح التاء وكتبَ الناقة .
ورفع { الكتاب } يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان . و { لا ريب فيه } معناه : لا شكّ فيه ولا ارتياب به ؛ والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريبٌ للكفار( {[166]} ) .
وقال قوم : لفظ قوله { لا ريب } فيه لفظ الخبر ومعناه النهي .
وقال قوم : هو عموم يراد به الخصوص ؛ أي عند المؤمنين . وهذا ضعيف( {[167]} ) .
وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير : «فِيهُ » بضم الهاء ؛ وكذلك «إليهُ » و «علَيْهُ » و «بِهُ » و «نُصْلِهُ » ونولهُ وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل . وقرأ ابن إسحاق : «فيهو » ضم الهاء ووصلها بواو . ( {[168]} )
و { هدى } معناه رشاد وبيان ، وموضعه ، من الإعراب رفع على أنه خبر { ذلك } ، أو خبر ابتداء مضمر ، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله( {[169]} ) ، ويصح أن يكون موضعه نصباً على الحال من ذلك ، أو من الكتاب ، ويكون العامل فيه معنى الإشارة ، أو من الضمير في { فيه } ، والعامل معنى الاستقرار ؛ وفي هذا القول ضعف .
وقوله { للمتقين } اللفظ مأخوذ من وَقَى ، وفعله اتَّقى ، على وزن افتعل ، وأصله «للموتقيين »( {[170]} ) استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء ، وأبدلت الواو تاءً على أصلهم في اجتماع الواو والتاء ، وأدغمت التاء في التاء فصار { للمتقين } . والمعنى : الذين يتقون الله تعالى( {[171]} ) بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله . ( {[172]} )
مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف { الم } [ البقرة : 1 ] كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر . وقد جوز صاحب « الكشاف » علَى احتمال أن تكون حروف { ألم } مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن ، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى { الم } باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته ، فيكون { الم } جملة مستقلة مسوقة للتعريض .
واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتابُ ) خبراً . وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتاب ) بدل وخبرُه ما بعده ، فالإشارة إلى ( الكتاب ) النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة ؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون ( الكتاب ) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل ، ويكون قوله ( الكتاب ) على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله ( الكتاب ) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من { ذلك } والخبر هو { لا ريب فيه } .
ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي{[70]} « وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : « واللَّهِ وذلك قسم عظيم » لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم » ا هـ ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول .
وابن مالك في « التسهيل » سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان ( أي اسم القريب والبعيد ) مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام ، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] ثم قال : { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة .
وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً ، ففي القرآن : { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } [ القصص : 15 ] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خُفاف بن نَدْبة{[71]} :
أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه *** تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلك{[72]}
وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في « الحماسة » :
متَى يأتِ هذَا الموتُ لا يلفِ حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها
فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة . وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في { الم } [ البقرة : 1 ] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم : { افتراه } [ يونس : 38 ] وقولهم : { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ولا يرد على هذا قوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 92 ] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه . ولعل صاحب « الكشاف » بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ : { ذلك الكتاب } تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار ، فللَّه در صاحب « المفتاح » إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة : > .
وقوله : { الكتاب } يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة { لا ريب فيه } ، ويجوز أن يكون ( الكتاب ) خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال .
و ( الكتاب ) فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخَلق ، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به . واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً ، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه . وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين .
{ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .
حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً . والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ، وريبُ الزمانِ وريبُ المنون نوائِب ذلك ، قال الله تعالى : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعلِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق ، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال بشار :
أخوك الذي إن ربته قال إنما *** أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبه{[73]}
وفي الحديث : " دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك " أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح .
ولم يختلف متواتر القراء في فتح { لا ريب } نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الحروف المجتمعة في { الم } على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله : { الكتاب } خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : { لا ريب } نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء ، فتكون جملة { لا ريبَ } منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : { ذلك الكتاب } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : { فيه } متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : { فيه ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه } [ الشورى : 7 ] وقوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 9 ] ويجوز أن يكون قوله : { فيه } ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده : { هدى للمتقين } ومعنى « في » هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا : { لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " إنك امْرؤ فيك جاهلية " ويكون خبر ( لا ) محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو : { قالوا لا ضير } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :
من صد عن نيرانها *** فأنا ابن قيس لا بَرَاحُ
أي لا بقاء في ذلك ، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : { لا ريب } وفي « الكشاف » أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله : { ريب } .
وإن كانت الإشارة بقوله : ذلك } إلى { الكتاب } باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله { الكتاب } بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : { فيه } ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله ، والوقف على قوله { فيه } ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجىء خطابهم بقوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم . قال صاحب « المفتاح » : « ويقلبون القضية{[74]} مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن : { لا ريب فيه } وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل .
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى : { لا ريب فيه } بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ ( لا ) فيَنظُر إلى قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة .
وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر ، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله : { ذلك الكتاب } كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت : هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره .
وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على { فيه } ولَدى من وقف { على ريب } ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة ، وقد ذكر « الكشاف » أن الظرف وهو قوله : { فيه } لم يقدم على المسند إليه وهو { ريب } ( أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا ) كما قُدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا هـ . يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا . وليس الحصر في قوله : { لا ريب فيه } بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم . وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا . نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدلِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها . والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها . وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر ، وأمثلة صاحب « المفتاح » في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي . وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } [ البقرة : 272 ] . وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها .
وقوله : { هدى للمتقين } الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة . وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .
والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي . وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية . فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد .
والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل . وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون ، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية . وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط } . ومحل ( هدى ) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير ( الكتاب ) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب ، وإن كان الوقف على قوله { لا ريب } وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله { هدى } مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى .
والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر ، والمراد هنا المتقين الله ، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا .
والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم .
والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر ، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى : { الذين يؤمنزن بالغيب } إلى قوله { من قبلك } .
وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة :
الأول : أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق . والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا ، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب ، أو يزيده هدى كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .
الثاني : أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب ، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى ، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب .
الثالث : أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في { هدى } لأن المصدر لا يدل على زمان معين .
حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل ، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين ، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه ، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم . وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى ، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به ، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن .
وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام : فإن جملة { الم } [ البقرة : 1 ] تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم .
وجملة : { ذلك الكتاب } تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب ، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم ، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب ، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم ، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا إلى قوله : { ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه .
وجملةُ : { لا ريب } إن كان الوقف على قوله : { لا ريب } تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة ، وأن ( لا ريب ) فإنه الكتاب الكامل ، وإن كان الوقف على قوله : { فيه } كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] .
وقال في « الكشاف » : ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتِ جزالة : ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر وهو الهدى موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا هـ . فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير ، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات . قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها .