في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

والآن وقد شهدوا وشهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء . ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ، مشيه في الأسواق . . الآن يعود إلى الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يسليه ويؤسي ، بأنه لم يكن بدعا من الرسل ، فكلهم يمشون على سواء :

( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة . أتصبرون ? وكان ربك بصيرا ) . .

فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه . إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله . سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره . وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره . ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر . وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء : ( أتصبرون ? ) . . ( وكان ربك بصيرا ) . بصيرا بالطبائع والقلوب ، والمصائر والغايات . ولهذه الإضافة هنا ( وكان ربك )إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب . . والله بصير بمداخل القلوب . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً } .

وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه ، يقول لهم جلّ ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة .

فإن قال قائل : فإن «مَنْ » ليست في التلاوة ، فكيف قلت معنى الكلام : إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك معناه : أن الهاء والميم في قوله : «إنهم » ، كناية أسماء لم تُذكر ، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها ، وإنما ترك ذكر «مَنْ » وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : مِنَ المُرْسَلِينَ عليه ، كما اكتفي في قوله : وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار «مَنْ » ، ولا شكّ أن معنى ذلك : وما منا إلاّ من له مقام معلوم ، كما قيل : وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه : وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله : إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل «مَنِ » المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه «ليبلغك الرسالة » صلة ل «مَنْ » .

وقوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا ، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له ، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره . يقول : فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها .

وبنحو الذي قلنا تأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً . . . الاَية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال : يُمْسك عن هذا ويُوَسّع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويُبْتَلَى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يروي الطبري ، عن عكرِمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ . . . الاَية : وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ، لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .

وقوله : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بمن يجزع ومن يصبر .

تابع تفسير سورة الفرقان

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

{ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } أي إلا رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } ، ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقومهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } . وقرىء { يمشون } أي تمشيهم حوائجهم أو الناس . { وجعلنا بعضكم } أيها الناس . { لبعض فتنة } ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم ، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه ، وفيه دليل على القضاء والقدر . { أتصبرون } علة للجعل والمعنى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به { وكان ربك بصيرا } بمن يصبر أبو بالصواب فيما يبتلى به وغيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

هذه الآية رد على كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] فأخبر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبياً إلا بهذه الصفة ، والمفعول ب { أرسلنا } محذوف يدل عليه الكلام تقديره رجلاً أو رسلاً ، وعلى هذا المحذوف المقدر يعود الضمير في قوله { إلا إنهم } وذهبت فرقة إلى أن قوله { ليأكلون الطعام } كناية عن الحدث ، وقرأ جمهور الناس «ويَمْشون » بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين ، وقرأ علي وعبد الرحمن وابن مسعود «يُمَشَّون » بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه ، وقرأ أبو عبد الرحمن{[8801]} بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى يمشون ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

أمشي بأعطان المياه وأبتغي . . . قلائص منها صعبة وركوب{[8802]}

ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد { فتنة } لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل ، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب{[8803]} ، والتوقيف ب { أتصبرون } خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم هل يصبرون أم لا{[8804]} ، ثم أعرب قوله { وكان ربك بصيراً } عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين .


[8801]:هو أبو عبد الرحمن السلمي، قاله في القرطبي.
[8802]:يروى البيت: "ومشى بأعطان المياه وابتغى" بضمير الغائب، وفي روح المعاني: (ذلول) بدلا من (ركوب). والعطن للإبل كالوطن للإنسان، وقد غلب على مبركها حول الحوض، والجمع أعطان. والقلائص جمع قلوص، وهي من الإبل: الفتية المجتمعة الخلق وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها، ثم هي الناقة. والركوب: يريد بها التي ذللت واعتادت الركوب عليها، وهي ضد الصعبة التي لم تستأنس، أو التي تنفر من الراكب ولا تقبل الجلوس فوقها. والشاهد في البيت أن مشى بالتشديد تكون بمعنى مشى بالتخفيف.
[8803]:ابن القاسم صاحب مالك رحمه الله، وقد رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرا عليه، فتلا الآية، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر.
[8804]:الفتنة: أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى، والصبر أن يحبس كل منهما نفسه، المعافى عن البطر، والمبتلى عن الضجر، وقوله سبحانه: [أتصبرون]؟ محذوف الجواب، يعني: أم لا؟ ومن أجل هذا أجاب ابن القاسم حين رأى أشهب في ملكه فقال: سنصبر.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق } .

هذا رد على قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] بعد أن رد عليهم قولهم { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [ الفرقان : 8 ] بقوله : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } [ الفرقان : 10 ] ، ولكن لما كان قولهم : { أو يلقى إليه كنز } حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيراً من ذلك في الآخرة .

وأما قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد قالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] ، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس . وقد قال موسى { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم .

وجملة : { ليأكلون الطعام } في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال . والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حاللٍ إلا في حال { إنهم ليأكلون الطعام } . والتوكيد ب ( إن ) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلاً للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلاّ ، وإنّ ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] ، وقوله : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } [ الشعراء : 208 ] .

وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية .

ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثاً فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك .

{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } .

تذييل ، فضمير الخطاب في قوله : { بعضكم } يعم جميع الناس بقرينة السياق . وكلا البعضين مبهم يبينه المقام . وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف ، فبعضها فتنة في العقيدة ، وبعضها فتنة في الأمن ، وبعضها فتنة في الأبدان .

والإخبار عنه ب { فتنة } مجازي لأنه سبب الفتنة ، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه ، والبعض الآخر المشركين ؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم ، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة .

وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال : { وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون } [ هود : 29 ، 30 ] .

وقال تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بَيْنِنا أليس الله بأعلمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .

والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام ، ولذلك عقب بقوله : { أتصبرون } ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] .

وموقع { وكان ربك بصيراً } موقع الحث على الصبر المأمور به ، أي هو عليم بالصابرين ، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم .

وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافاً إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن الرب لا يضيع أولياءه كقوله : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97 99 ] أي النصر المحقق .