في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم ، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف :

( أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ? ) . .

ولقد كان عجيباً - وما يزال - أن يعنى الله سبحانه - في عظمته وفي علوه وفي غناه - بهذا الفريق من البشر ، فينزل لهم كتاباً بلسانهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم ، ويبين لهم طريق الهدى ، ويقص عليهم قصص الأولين ، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين . . ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون !

وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته ، جزاء إسرافهم القبيح !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مّسْرِفِينَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أفنضرب عنكم ونترككم أيها المشركون فيما تحسبون ، فلا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ : أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال : تكذّبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله : أفَنَضْربُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال : بالعذاب .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صفحا قال : أفنضرب عنكم العذاب .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أفَنَضْربُ عَنْكُمُ الذّكْرَ صَفْحا أنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ يقول : أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أُمرتم به .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أفنترك تذكيركم بهذا القرآن ، ولا نذكركم به ، لأن كنتم قوما مسرفين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا أنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ : أي مشركين ، والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا ، فدعاهم إليه عشرين سنة ، أو ما شاء الله من ذلك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا قال : لو أن هذه الأمة لم يؤمنوا لضرب عنهم الذكر صفحا ، قال : الذكر ما أنزل عليهم مما أمرهم الله به ونهاهم صفحا ، لا يذكر لكم منه شيئا .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله : أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم ، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن الأمم السالفة قبل الأمم التي توعدها بهذه الاَية في تكذيبها رسلها ، وما أحلّ بها من نقمته ، ففي ذلك دليل على أن قوله : أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا وعيد منه للمخاطبين به من أهل الشرك ، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن الله رسولهم مسلك الماضين قبلهم .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة «إنْ كُنْتُم » بكسر الألف من «إن » بمعنى : أفنضرب عنكم الذكر صفحا إذ كنتم قوما مسرفين . وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والكوفة وعامة قرّاء البصرة «أن » بفتح الألف من «أن » ، بمعنى : لأن كنتم .

واختلف أهل العربية في وجه فتح الألف من أن في هذا الموضع ، فقال بعض نحويي البصرة : فتحت لأن معنى الكلام : لأن كنتم . وقال بعض نحويي الكوفة : من فتحها فكأنه أراد شيئا ماضيا ، فقال : وأنت تقول في الكلام : أتيت أن حرمتني ، تريد : إذ حرمتني ، ويكسر إذا أردت : أتيت إن تحرمني . ومثله : لا يَجْرمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدّوكُمْ وإنْ صَدّوكُمْ بكسر وبفتح .

فَلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ على آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أسَفا قال : والعرب تنشد قول الفرزدق :

أَتجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبَةَ حُزّتا *** جِهارا ولَمْ تَجْزَعْ لقَتْلِ ابنِ حازِمِ

قال : وينشد :

أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُ *** وَحَبْلُ الصّفا مِنْ عَزّةَ المُتَقَطّعُ

قال : وفي كل واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح .

والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الكسر والفتح في الألف في هذا الموضع قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أن العرب إذا تقدم «أن » وهي بمعنى الجزاء فعل مستقبل كسروا ألفها أحيانا ، فمحضوا لها الجزاء ، فقالوا : أقوم إن قمت ، وفتحوها أحيانا ، وهم ينوون ذلك المعنى ، فقالوا : أقوم أن قمت بتأول ، لأن قمت ، فإذا كان الذي تقدمها من الفعل ماضيا لم يتكلّموا إلا بفتح الألف من «أن » فقالوا : قمتُ أن قمتَ ، وبذلك جاء التنزيل ، وتتابع شعر الشعراء .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

{ أفنضرب عنكم الذكر صفحا } أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، قال طرفة :

اضرب عنك الهموم طارقها *** ضربك بالسيف قونس الفرس

والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب { عنكم الذكر } ، و{ صفحا } مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين ، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك . وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفا ويؤيده أنه قرئ " صفحا " . بالضم ، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين ، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه . { أن كنتم قوما مسرفين } أي لأن كنتم ، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي { إن } بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالا لهم ، وما قبلها دليل الجزاء .